الإنتاج الفني والسرديترجمات حصرية

من رسائل (كامو) إلى (ماريا كازارس)

ألبير كامو (1913 – 1960) فيلسوف وجودي، وكاتب مسرحي، وروائي فرنسي. ونال جائزة نوبل للآداب بعام 1957 “على مجمل أعماله التي تسلط الضوء، بجدية ثاقبة، على كل المشكلات التي تُطرح في زمننا على ضمير البشر”. 

نقدم لكم هنا، ثلاثة من رسائل (كامو) إلى (ماريا كازاس) والتي جمعته معها علاقة غرامية، جُمعت هذه الرسائل وغيرها في كتاب عام 2017، حمل عنوان (الرسائل 1944-1959) باللغة الفرنسية بترجمة حصرية لدى ساقية.


الرسالة ١٦:

شتنبر ١٩٤٤م، الساعة الواحدة صباحا.

منذ لحظة، قطعتُ بغتة المكالمة الهاتفية لأن الدموع خنقتني. لا تعتقدي أني اتسمتُ بالعدوانية نحوكِ. لم يسبق قط لقلب إنسان أن غمرته المحبة ثم الخيبة في ذات الوقت. أينما وجهت بصري، لا ألمح سوى حلكة الليل. برفقتكِ أو بدونكِ، ضاع كل شيء. وفي غيابكِ، خارت قواي. أعتقد أني أتمنى الموت. ولا أمتلك ما يكفي من القوة لمقاومة الأشياء بل ونفسي، مثلما دأبتُ على فعل ذلك منذ صرتُ إنسانا. لم أعد قادرًا سوى على النوم، فقط لاغير. أنام وأدير رأسي نحو الحائط، مترقبا مجيئك. متى يمكنني الصراع ضد مرضي وأصبح أكثر قوة من حياتي الخاصة، لا أعرف متى سأعثر ثانية على طاقة القيام بذلك.

مع ذلك لا تقلقي. أفترض أن كل هذه الأمور ستعود لنصابها. تعكس رسالتي هاته، إلى جانب مختلف باقي التفاصيل، إيماني دائما بكِ، وكذا إصرار رغبتي على رؤيتكِ سعيدة. وداعا، حبيبتي. تذكَّري دائما الشخص الذي عشقكِ أكثر من حياته. ولا تغضبي مني.


الرسالة ١٧:

باريس، أكتوبر ١٩٤٤م،الساعة الواحدة ونصف ظهرا.

عيد ميلاد سعيد، عزيزتي [2]. أود أن أبعث إليكِ في نفس الآن كل ابتهاجي، لكن حقيقة غير قادر. لقد أنهيتُ البارحة رسالتي إليكِ وقلبي ممزق. وبعد الظهيرة، ترقبتُ طيلة تلك الفترة، مكالمة هاتفية منكِ. ليلا، أدركتُ جيدا أكثر إلى أي حد أفتقدكِ. تملكني شيء فظيع ومزمن . لست قادرا التعبير عنه.

أريد إحاطتكِ علما بمختلف ذلك بين طيات تعبكِ. أعلم جيدا أنه ليس خطأكِ، لكن ماذا بوسعكِ فعله ضد هذا الوجع المحيط بي عندما أحدد كل ما يفصلني عنكِ. كما قلت لكِ، أريد أن تمكثي أمامي، تتواجدين دون هدنة وأعلم مدى عبثية أمنية من هذا القبيل.

لاتبالي كثيرا بوضعي، أتدبّر أمري بكيفية حسنة. كوني سعيدة هذا المساء. فلا نعيش دائما سنّ الثانية والعشرين، ولا باقي أعمار السنوات، بوسعي فعلا تلقينكِ كيفية ذلك، أنا من يشعر بكوني كهلا جدا منذ عهد قريب.

لم أخبركِ إلى أي حد عشقتكِ وأنت تؤدين دورا في مسرحية :القروي [3].وقد أظهرتِ أناقة وتوهجا وإبداعا.

نعم بوسعكِ أن تكوني سعيدة، مادمت أنتِ فنانة عظيمة جدا. ثم بغض النظر عن كل ما يؤلمني،فقد استمتعت برفقتكِ.


الرسالة ١٨:

نوفمبر ١٩٤٤م، ٢١.

ستأتين بعد قليل وسأخبركِ بصيغة لا لبس فيها، عن ما وددتُ أيضا الإفصاح لكِ عنه. بعدها، ستنتهي مسارات حكايتنا. غير أني لا أريد الانفصال في ظل نظرة بئيسة نحاول بحسبها أن نبلور بلا جدوى مالا يمكنه التحقق. قضيتُ ليلة البارحة متسائلا إنْ أحببتني حقا أو كان مختلف ذلك فقط تجليا مظهريا كنتِ بدوركِ في خضمه نصف مخدوعة. لكن من الآن فصاعدا لن أستفسركِ أبدا بهذا الصدد. أريد الحديث معكِ، بخصوصنا معا ثم عني. أتطلع إلى إسعاد (فرانسين)[1]. لكن أجدني ضعيفا تماما كي أنتشل نفسي من دوامة هذه الحكاية. جسديا، أشعر بانكسار يفوق ما بوسعي البوح به. معنويا، لا أحس سوى بأني قلب جاف، صارم، محروم من رغباتي. فليس أمامي إذن أي موضوع ألتمسه وقد عشت ما يكفي من الوقائع تجعلني أستسيغ حقا نوعا من التخلي. لكن في خضم هذه الحياة، سيظل عشقي وفيّا لكِ.

تكمن أمنيتي الأكثر صدقا وفطرية في أن لا يلمسكِ أي رجل آخر، غداة اختفائي. أعلم أنه تطلع مستحيل. في المقابل، كل ما أتمناه، أن لا تضيعي هذه الحقيقة الرائعة التي هي أنتِ، بالتالي لا تمنحي هذا العطاء سوى للكائن الذي يستحقه. ومادام يصعب، تسيُّدي على كل هذا الحيز، الذي أود بغيرة اكتساحه، أريد منكِ أن تحرسي داخل قلبكِ، هذه المكانة المميزة، حيث بدا لي خلال لحظات نادرة أني أستحقها. طموح حزين، لكن هذا مابقي في جعبتي.

أنا، فقط محبط. خلال فترة هذا الصباح مع اضطرابي، سادني حزن جاف، نتيجة فكرة انتهاء علاقتنا، نعم انتهت فعلا، ثم اقتراب موعد فصل الشتاء، بعد الربيع وهذا الصيف الذي لفحتني كثيرا أشعة شمسه. آه! (ماريا) عزيزتي، أنتِ الكائن الوحيد الذي ألهمني الدموع. أشياء كثيرة لم أعد أتذوقها! فالمسرات التي عرفتها معكِ صارت تبدو قياسا لها، فقيرة تلك الأخرى التي بوسعي ملاقاتها.

أفكر في مغادرة باريس والسفر بعيدًا قدر الإمكان. هناك أشخاص وشوارع غير قادر على زيارتهما ثانية. لكن مهما حدث، تذكّري دائما وجود كائن في هذا العالم، بوسعكِ خلال أيّ لحظة الرجوع إليه أو القدوم عنده. لقد منحتكِ ذات يوم، من صميم فؤادي، كل ما أملكه وجل ما أنا عليه. اهتمي بذلك غاية رحيلي عن هذا العالم الغريب الذي بدأ يتعبني. ويظل أملي أن تدركي في يوم من الأيام إلى أيّ مدى أحببتكِ.

وداعا، عزيزتي، شغفي. ترتجف يدي وأنا أكتب لكِ هذا. إذن احرصي على نفسكِ، وحافظي على نقائكِ. لا تنسي قط أن تستمري كبيرة. أفتقد إلى هذا القلب حينما أستحضر كل الزمان القادم وأنتِ غائبة تماما. لكن وأنا أعرفكِ فنانة عظيمة، تتماثل مع جوهركِ، أو سعيدة وفق أسلوبكِ، أدرك في الوقت ذاته، إضافة إلى ماسبق، أني سأكون سعيدا، بالرغم مني. وستتجلى لدي فكرة مفادها أني لم أضعف أي شيء لديكِ وهذا الحب الشقي لم يسعفكِ. هي مواساة خاطئة، لكنها الوحيدة المتبقية لدي.

مرة أخرى، وداعا عزيزتي، وليشملكِ حبي برعايته. أقبِّلُكِ، وعلى امتداد هذه السنوات التي سأعيشها بدونكِ، أقبِّل وجهكِ العزيز مع كل الألم والحب المهول الذي يستوطن قلبي.


الهوامش:

[1]: بعد عامين من الانفصال الاضطراري، غادرت (فرانسين) مدينة وهران بالجزائر، أواخر سنة 1944، صوب باريس للالتحاق بزوجها (كامو)، وقد أقاما في شقة صغيرة استأجرها الروائي الشاب من (أندريه جيد).

[2]: ولدت (ماريا كازارس)، يوم 21 نوفمبر 1922، في غاليسيا بإسبانيا، وقد بلغت آنذاك سن الثانية والعشرين.

[3]: مسرحية البيت الريفي لـ(أنطون تشيخوف)، أخرجها (مارسيل هيرون) سنة ١٩٤٤م .

زر الذهاب إلى الأعلى