المعرفة والفكر الفلسفي

ابن رشد .. الفيلسوف الذي رحل بصمت، مخلفًا الحيرة حوله

قدّم (أرسطو) والفلسفة اليونانية للحضارات العربية

في هذه المقالة، لست معنية بتحرير المسائل التي تفرد بها (ابن رشد) في شؤون العقيدة، وهذه المنصة الفكرية الرائدة، لم تخصص لمناقشة المسائل العقدية التي أثارها في كتابه المنطقي الفريد (فصل المقال) و كتابه العقلي المسمى بـ(التهافت)، كما أنه ليس القصد تعداد وفرة مؤلفاته، والتي لم تكن في عدد منها تكرارًا لمن سبقوه، وإنما جاءت بإضافة نوعية كلٌ في فنه وعلمه، فهذه كلها تبحث في مضانها.

 إن الهدف من مقالتي هذه: هو تعداد أظهر الدوافع الخفية النفسية والظاهرة الحركية وراء نكبة الشارح الفيلسوف (ابن رشد)، سواء أكانت متعلقة بشخصه أو بمناخ وظروف عصره، بغية الاستفادة منها بإسقاطها على الواقع، كلُ بحسب وجهته وغرضه وواقعه، وأظن أن المنتفع من هذه المقالة هو كل متجرد نزيه.


١. إنسانيته:

  شهد لـ(ابن رشد) معاصروه، فقد اشتهر بدماثة الخلق ورقيّ المنطق وحُسن النية ونقاء السريرة، وإحسان الظن بالخلق، وكرم العطاء وسخاء البذل. و هذه الإنسانية قد لا تسير في صالح من يتصدر للجماهير من العوام والدهماء كما سيتبين لنا و جاءت إنسانيته، إلى جانب بيئته لتدعم ذلك وتتسبب بصورة غير مباشرة فيما حصل له.

٢. بيئته وطبيعة نشأته:

خُص (ابن رشد) بشرف المنبت، وسلالة المجد،  إذ عاش في بيت علم وفقه ودين؛ فأبوه كان قاضيًا، في حين كان جده قاضِ قضاة قرطبة، وقد عُرف عنهما اشتغالهما بالعلم والتعليم وإيثار التأليف، والابتعاد قدر المستطاع عن حاشية الملوك والنأي بالنفس عن الاختلاط برجالات البلاط أو صرف الاهتمام بشؤون السياسة والحُكم.

فورث عنهما (ابن رشد) الحفيد ذلك، فضلًا عمّا تمتع به من حدة ذكاء مصروفًا في فرائد المسائل، وعلوّ الهمة في الإلمام بكافة ما في عصره من العلوم والفنون كالطب والفلك. زاد على ذلك التفرّد بطلب الحكمة، إضافة إلى القضاء والشريعة والفقه، إلى أن رُشّح من قبل (ابن الطفيل) لدى الحاكم الموحدي (أبي يوسف يعقوب بن يوسف) لترجمة كتب الفيلسوف اليوناني (أرسطو)، ومن هنا حدثت النقطة الفارقة في خط سير مستقبل (ابن رشد) إبان حياته وبعد رحيله إلى ساعتنا هذه.

لا شك أن الطبيعة الإنسانية الرفيعة التي جُبِل عليها (ابن رشد)، فضلًا عن البيئة المعرفية التي شبّ بها، تنبؤك بطالعه. فهو يؤثر الاعتكاف على الكتب قراءة وبحثًا، ويجيد المساجلة في مسائل العلم، ويتقن أيضًا عرض الأدلة والقوانين والاستدلالات المبنية عليها، بأسلوب من  يغلب عليه الطابع العلمي المجرّد. فهو لم يعتد بالكلية على أساليب الحوارات التي تدور في التجمعات البشرية، وما تتضمنه من استدراج واستمالة ومجاملة وتلوّن، غافلًا عمّا يدور في عقول رجالات مجتمع الساسة وجاهلًا باهتمامات منسوبي البلاط آنذاك، ولم يحفل بالتأويلات المحتملة لبعض سقطاته، ولم يدرك بعد أن الحاكم، وإن كان هو من طلب منه القيام بمهمة الشرح، وإن أكرمه وقرّبه منه ومن نعمه، هو نفسه من سيتسبب – و على حين غرة- في نكبته.

ولعل ذلك من جملة ما يسّر على خصومه مهمة النكاية به، في حين غفلة بادِية منه. 

٣. فرادته التي أثارت حسد مناوئيه:

فبالإضافة إلى ما تحلى به (ابن رشد) من طيبة وحسن سريرة، وغفلة عن دنيا المكائد، فإن مجموع الامتيازات الشخصية والعلمية والاجتماعية التي تحلى بها، قد لا تلفت الأنظار إليه، وتجمع ضده الأعداء كما هو الحال حين قربه الحاكم و أدناه وأسبغ عليه من المهانة والتكريم وحفظ المكانة -إلى الحد أنه يُنقل أن (ابن رشد) كان يخاطبه مع رفع الكلفة أحيانا-.

هذا من جانب ومن جانب آخر فإن لـ(ابن رشد) منهجًا فكريًا متفردًا خاصًا به أخرجه عن الاعتياد والمألوف؛ إذ لم يعد ضمن إطار الصورة الدارجة عن القاضي والفقيه، في علمه وفهمه ولغة خطابه، ولم تشفع لـ(ابن رشد) دلائل كثيرة تثبت قوة دينه، ورصانة حجته، فهو كان معظمًا للعقيدة كما لم ينقل عنه إصابته بلوثة من غرور عقلي، وانصراف قلبي عن العبادات كما يصاب بهما بعض من يخالط كتب المتكلمين والفلاسفة، وله فضائل في المدافعة عن حياض العقيدة بحزم حين تكفل بالرد على أهل الكلام وعدد من الفرق كالمتصوفة والمعتزلة والأشاعرة.

ولا ينبغي أن يفوتنا أنه، وإن عظم التأويل، إلا أنه لم يقبل أن يتكلم به العوام، لكن يبدو أن العداوة قد استحكمت حلقاتها حوله، والمؤامرة قد اكتملت أركانها، ومبدؤها شرارة حسدٍ ونار غيرة اشتعلت في صدور المتنافسين على السيادة وطلب التفرد والعلوّ، من عدد من القضاة والفقهاء، و عدد منهم -و الله وليهم وحسيبهم – في أدواء القلب هذه لا يختلفون عن غيرهم من سائر العوام في ذلك الزمن وحتى ساعتنا هذه، و إن زعموا الغيرة على العقيدة، ورفع لواء الذب عنها، إلا أنك تميزهم في فجور الخصومة كرعديد مفرداتهم، وغِلظة هجومهم، وتأليب ذوي السلطة وتهييج العوام، مع اقتطاع أدلتهم من سياقها ومناسبتها، وتأويلها بغير المراد، و تميزهم بفرحهم بالسَّقطات يطيرون بها بقصد التشهير والتبكيت من غير تروٍ وتثبتٍ وحكمة. ترى أحدهم لا يتردد في تنصيب نفسه نائبًا عن الله تعالى ومسيطرًا على الخلق. ولطالما جنى هذا الصنف من الناس على الدين أكثر مما سلم منهم.

٤. الامتلاء بالشيء يفضي إلى التشرب، والخروج عن قنال الاعتدال:

لا شك أن حالة الاعتكاف التي رافقت (ابن رشد) في ترجمة وشرح آراء (أرسطو) طوال سنتين أو يزيد، جعلته غارقًا حتى النخاع في معايشة أقوال وآراء وقوانين هذا الفيلسوف اليوناني النابغة، والذي كان مثارًا للجدل واللغط، وهو بهذه المخالطة الثنائية العقلية – يبدو لنا ولا نجزم- أنه قد رسم دائرة مغلقة دونهما معًا، إذ تمكن من فك رموز الفلسفة وشرحها في شروح ثلاث، ونجح إلى حد بعيد في الإبحار في علوم المتكلمين، وكأني بـ(ابن رشد) يراوده بصحبة إرث (أرسطو) شعور بالنشوة والدهشة لا يُضاهى، وهو لون ماتع بالنسبة لذائقة (ابن رشد) العلمية المذهلة.

وأجد أنه وخلال سنواته الثلاث التي قضاها بصحبة (أرسطو)، قد عثر على ضالته ووجد مراده فيما يتفق مع فرادة عقله ودِقّة فهمه وغرابة استنباطه وعمق تأويلاته، وعلى ضوء ذلك فلا بُدّ من الاعتراف من ان (ابن رشد) قد ساعد خصومه واستعداهم على نفسه، إذ امتلأ ففاض الماء من فوهة الجرة؛ فقد كان لا يتردد في الإفصاح عن إعجابه بـ(أرسطو) والثناء عليه، والاستدلال بأقواله في مؤلفاته وشروحاته، والذبّ عن الحكمة في (فصل الخطاب) و(التهافت) وغيرهما، واعتبارها والشريعة لا يفترقان، والتصريح بأنه لا ينبغي رفض كل ما لدى الفلاسفة السابقين بل لابد من التحلي بالانفتاح العقلي، والاستفادة مما صح لديهم. 

٥. الخروج عن الطريق الآمن والخط المألوف:

لا ينبغي عند ذكر (ابن رشد) تجاوز حجة الإسلام وحامي العقيدة (أبي حامد الغزالي) الذي نجح في كتابه الشهير (تهافت الفلاسفة) في اعتباره المنافح الأول عن الدين، وتمكن بجدارة فائقة من اقصاء الفلسفة بالكلية عن الحياة، وقد نجح في إقناع العوام الذين لم يقرؤوا كتابه أصلًا ولكنهم سمعوا به بنبذ ذكر الفلسفة، وبرفض كل ماله علاقة بالفلاسفة الوثنيين، يسبقهم طلاب العلم الذين اعتقدوا ودانوا بما جاء به (الغزالي)، و لا شك حين ينبري (ابن رشد) بمفرده للرد على (تهافت الفلاسفة) وإن لم يجانب المنهجية العلمية ولم يغلظ أو يسفّه أو يقلل من شأن (الغزالي)، إلا أن هذا النوع من الجرأة في مخالفة المنهجية الشائعة التي سار عليها علماء الشريعة، قوبلت بارتياب وإثارة شك والاستفزاز ، واستعداء جماهير غفيرة، رافقه تعصب تنافسي من رموز خصومه من معاصريه صوبه.

 وهذا السبب و السابق عليه، مما وقع من الجماهير وخواصهم في زمن (ابن رشد) لا يزال يقع إلى أيامنا هذه. فكل من يخرج عن الخط المألوف، و يحاول النفاذ من الدائرة المغلقة، ويُطالب بالانفتاح الموزون على ثقافات أخرى يواجه بالقَطيعة والاستعداء نفسه، يساندهم الجماهير الغفيرة التي تحاكي مواقف طلبة العلم، لاسيما من أصحاب الشهادات العلمية للتخصصات، فيعتكف الواحد منهم على مسألة واحدة من مسائل محيط العلم الواسع، يقضي في البحث بشأنها سنوات، فينتابه عندها شعور واهم بأنه قد تفرد بالعثور على الحقيقة، فيكافئ نفسه بتأليب واستعداء العوام حوله ضد من يخالف مسألته تلك، وهذا من خفايا الإعجاب بالنفس واتباع غرور “الأنا” الناجم عن الامتلاء بالمسألة الواحدة من بحور العلم، وقلّما من يتفطن لهذا. فقوبل هذا بذاك!

يقع ذلك كثيرًا جدًا دون التنبه إلى أن العقل، وإن تجاوز الحد في العبقرية، إلا أنه يبقى محدودًا بحدود الحواس والعمر وميراث التجربة البشرية، وبتدخل من النفس؛ إذ لا بُد من التفطن إلى أن للنفس حظوظ مندسة وخفية، وكلٌ يؤخذ من قوله ويُرد، إلا ما جاء به محمد عليه أفضل الصلاة و أزكى السلام.

٦. ألفة القديم، والخوف من التجديد:

أدرجت هذا كسبب خاص ولم أدرجه ضمن السابق، نظرًا لقوة تأثير الخوف المَرَضي في صناعة القرارات وإصدار الأحكام، وكذلك لإلحاحه على النفس واتساع مداه، فما بين عدة عقود متطاولة يطل علينا هذا الخلاف بين أنصار التقليد ومريدي التجديد، بين الراغبين بالتغيير والمناهضين له، ومع بزوغ رأس هذا الخلاف يظهر لنا شخص (ابن رشد) حاضرًا و بشدة متمثلًا في كتبه وآرائه -والمثير للاستغراب وفي اسمه أيضاً-، و كأني بـ(ابن رشد) مجسدًا لهذا الصراع القديم الجديد، سواء كان ذلك في عصره وبين أهل ملته، وإلى أن انتقلت معاركه إلى حلبة المجالس الكنسية في أوروبا، حتى أصبحت آراء (ابن رشد) مثيرة للصراع والخلاف واحتدام المعارك. 

ولعل (ابن رشد) اختار ذلك لنفسه، حين قرر بشجاعة نادرة صعود المرتقى الأصعب بداية حدث حين استجاب لأمر الحاكم فتصدر لكتب (أرسطو)، فشاء الله تعالى أن يجسد القناة المفتوحة بين فلاسفة اليونان القدماء والثقافة الإسلامية المتجددة المتوسعة، وكلنا نعرف أن الاختيارات الحرة تعبر عن إرادة حرة، وكلما كانت الإرادة فتية والعقلية فريدة جاءت الاختيارات تُشاكلها.

٧. افتقاده للغة التواصل مع العامة والدهماء من الخاصة معًا:

إن الموقف الشائع حول لقائه الأول بالحاكم (أبي يعقوب) حين امتدحه (ابن الطفيل) بحضرته، فأراد أن يمتحنه فسأله ما رأيهم في السماء؟ يقصد الفلاسفة، فارتبك (ابن رشد) وتردد، ففطن (أبو يعقوب) لذلك فالتفت لـ(أبي الطفيل) يحادثه في أمور الفلسفة، حتى اطمأن (ابن رشد) وتجرأ فشاركهما النقاش.

هذا الموقف من (ابن رشد) لا أراه إلا أنه يؤكد ما ذهبت إليه مما طبع عليه ابن الأسرة العلمية، من الصدق والوضوح وعدم إتقانه للغة الخداع والمراوغة. وهذا ينم عن بساطة وعفوية في مهاراته الحوارية الشفوية، ويظهر خاصة حال مخاطبة ذوي الشأن من الملوك ووجهاء القوم. و لعله كان يفتقر إلى شيء من القدرة على التنزل إلى مراتب المتلقي من العوام وخواص الرتب معًا، سواء في لغة الخطاب أو الفهم فهو كما وصفه (العقاد): “يجيد المساجلة لا المنادمة”، ويعزو ذلك إلى نشأته العلمية الجادة –كما أسلفنا–، فضلًا عن كثرة قراءته وتتبعه مسائل العلوم والفنون، فغلب ذلك على لسانه وتغلّب على قلمه استعارة المصطلحات وأنواع التعبير التي تحتمل التأويلات، فتأخذه الحماسة عند عرض المسائل دون أن يسبق ذلك بمراعاة أصول البروتوكولات الملكية عند مخاطبة الأمراء وذوي الشأن.

إلى جانب أنه كان يتمتع بقدر كبير من إحسان الظن، والاطمئنان لجنب الآخر؛  فقد فاته، وهو العبقري، الانتباه إلى طبيعة المناخ السياسي المتقلب بتغير الظروف والضغوطات، فترجمة فلسفة (أرسطو) جاءت بناءً على طلب الحاكم في زمن كان فيه الحاكم يهتم بالتجديد والانفتاح العلمي، وفي وقت الرخاء الذي يصاحبه عادة ازدهار العلم والثقافة، ثم لمّا تبدل الحال وصحبه خوف من عدو لدود مترصد، مال الحاكم إلى التدين وذلك مع اشتداد ضغط الصليبين على الحدود، وظهرت الحاجة حينئذ إلى إشعال فتيل العاطفة الجهادية الدينية لدى الجماهير أكثر من أي شيء آخر، إذ لم تعد علوم الفلسفة تخدم الغرض آنذاك، فكان من السهل حينئذ على المتربصين السعي لقطع شجرة نبتت بأمر الحاكم وكبرت في حماه!

فضلًا عن أن (ابن رشد) لم يكن متسلحًا بالحيطة والحذر مع الاحتراس من السقطات والفلتات في ترجماته، لا سيما في وسط بلاط الحاكم وفي مجتمع يعج بالوشاة والمتربصين من الحساد والأعداء، فما نقل عنه من التأويلات، لو نقلت عن غيره ممن هم دونه ممن لا يثيرون الانتباه ولا يحركون كوامن الغيرة والحسد ويتقنون لغة التزلف والمداهنة والتلون، فلربما قوبلت بالتجاهل والتغاضي أو حتى الاستنابة سرًا، حتى أنه لم يُنقل عن (ابن رشد) دفاعًا عن نفسه؛ فلم ينقل عنه أنه كذّب خصومه أو فند تأويلاتهم، إلا أنه قد وجد تأويلًا ومخرجًا للكلمة التي وصف بها ملك البربر بملك البرّين.

إن الاستبسال في الدفاع عن حرمات النفس المسلمة، فنًا ومهارة يتطلبان جهدًا يقوم على شدة جد وبأس وبصيرة حاذقة بألاعيب الوشاة وطرق احتيالهم للنيل منه، وهذه المهارات بالنسبة لـ(ابن رشد) الذي بلغ السبعين من عمره آنذاك، لم ينشأ عليها ويبدو أنه كذلك لم يحفل بها!

٨. طبيعة العقلية الجماهيرية:

 في الشأن الجدلي والفلسفي، فالعقلية الجماهيرية يسهل عليها الوثوق بالعبارات التي تنفر من الفلسفة و أهلها؛ “من تفلسف تزندق”. وكذلك فإن تناقل الوشايات والقصص والأخبار التي لا تحتاج إلى تتبع وتثبت ولا تستدعي حضورًا ذهنيًا، أسهل وأمتع من إجهاد العقل في مناقشة المسائل الجدلية واختيار الأصوب منها.

الدليل لدى العقلية الجمعية هو تقليد الكثرة، والرجحان لديهم هو من كان بصف ذي الغلبة والقوة والسلطة وحدهم، حسبهم: “قالوا”، و”حدّثنا الثقات”! كما أن إلقاء قنينة الوشاية والإشاعة في وسط أمواج الجموع الهادرة، يجعل من المتعذر تتبعها بقصد التخلص منها، كذلك تناقل سقطات (ابن رشد) وبعض أخطائه في تأويلاته.

هذا من جانب، ومن جانب آخر فالذاكرة الجمعية لا يعوّل عليها في تدوين الأخبار ونقل الأحداث، فهي قصيرة انفعالية متقلبة، وربما يطير الخبر في الأمصار وينتشر عبر الآفاق، ويوثّق في كتب السير و يدوَّن في التاريخ ويتداوله العامة قبل الخاصة بشيء من التعظيم والمبالغة والتهويل، وللنفس منها لون ونصيب، كحيلة لتزكية النفس ولإظهار الورع والتقوى، وغير ذلك من حيل النفس الأمارة!

في حين أن صانع الخبر وملفق الحدث، واشٍ و حاسد سمع بعضًا منه وعدَل عن بعض، أو اقتطعه من سياقه بالتأويل مع الاحتمال والشبهة لا مع مراعاة ملابسات المشهد وظروفه،  كالزعم بتأليهه كوكب الزهرة! وفيما أظنه هذا من البهتان العظيم، و لا يراودنا أدنى شك أنها من أخطاء الترجمة.

وكذلك تهمة أخرى بأن (ابن رشد) أنكر (قوم عاد) وإن كنت أظنه -حسب ظني والله أعلم-  قصد صنيع القوم لا إنكار الخبر القرآني، في موقف تفسيري عقلي انفعالي جاء محتدمًا منه بقصد التطمين والتخفيف من شدة ما نزل بالناس من احتقان وهلع وترقب تنزل من السماء بعذاب ريحٍ كريح (قوم عاد)، ولكن الناس نقلوا عنه بجرأة، وكأنها من ضروب الأحاديث العابرة والمسلية! ولا زالت هذه الأخبار لصيقة بـ(ابن رشد) إلى يومنا هذا، مع تجاهل سافر لقدره وفضله في سائر جوانب عبقريته، وحتى في جانب عدالته ودينه وفقهه.

٩. ظروف المحاكمة:

 اجتمع عدد كبير ممن اشتغلوا بالقضاء والفقه، وبرئاسة الحاكم الملقب بـ”المنصور” حوله لمقاضاته، وإصدار الحكم عليه بعد تأليبهم الحاكم عليه وتحريضه. وكان من الأولى بهم عند محاكمته، منحه للدفاع عن نفسه الفرصة، وإمهاله ليتسنى له المراجعة والأوبة. وجاءت ظروف المحاكمة لتشكل له صدمة عقدت لسانه وحبست عقله في حين أن الإنصاف هو عين العدالة التي قامت بها السموات والأرض، وهو ما نهض به (ابن رشد) نفسه إبان عمله في القضاة. وكان الأولى عدم تجاهل امتيازاته وفرادته، وعدم إسقاط حقه عليهم في فناء العمر في الاشتغال بعظيم العلوم وتأليف الشروحات وفرائد الفنون. ولا شك أن تتابع الاتهامات الموثقة والإدانات المرصدة، وتجريده من أكثر المعاني التصاقًا به وهو الدين والعقيدة، وباسم الدين والعقيدة، مع اعترافهم بمحافظته وولده على الصلاة جماعة حتى بعد عزله والتشهير به، قد سبب له صدمة كبرى.

١٠. تبعات الصدمة النفسية:

تفاصيل ما وقع قد تسبب لـ(ابن رشد) بألم نفسي بالغًا وعميق الأثر، ويبدو أن (ابن رشد) لم يتعافى بعد من تبعات الاضطهاد الذي تعرض له، وبقي يعاني من مرارة تجريده مما برع به ومن اجتراء السفلة على حرمته وتكفيره والتطاول على كرامته ولعنه وشتمه، فضلًا عن نفيه لمجاورة يهود. ما حدث له لم يبرأ لمجرد إصدار الحاكم أمرًا بالعفو عنه، فآثر الصمت والعزلة، وعافت نفسه القيام بأي محاولة للتظلم بقصد رتق الشق والانتصار لنفسه، ولم يبق بعدها إلا برهة يسيرة حتى وافته المنية عليه رحمات الله تترى.

 إلا أنه مما يبرهن على العدالة الكونية -و إن بدت في حساباتنا متأخرة- أن التاريخ لم يحفظ اسمًا لمن سعوا بالإيقاع به، في حين أن (ابن رشد) اسمًا مصحوبًا بشروحه بقيَ يُدرّس في أغلب جامعات أوروبا في عصور نهضتها الفكرية، و بقيت كتبه تترجم إلى اللاتينية والعبرية وغيرها من اللغات إلى عهد قريب. 

وعلى كل حال؛ فلا نقول إلا بما جاء في التنزيل المحكم: (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ ۖ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ ۖ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [سورة البقرة: ١٣٤]

هدى مستور

مؤلفة في الوعي الفكري وجودة الحياة، ومحررة صفحة إشراقات في جريدة الجزيرة السعودية.
زر الذهاب إلى الأعلى