آليات الكتابة، ونصائح في التعبيرالإنتاج الفني والسردي

أورهان باموق يصف العمليات التي تقوم بها عقولنا عند قراءة الروايات

أورهان باموق، كاتب وروائي تركي فاز بجائزة نوبل للأداب، سنة 2006. ولد في إسطنبول سنة 1952 وهو ينتمي لأسرة تركية مثقفة. درس العمارة والصحافة قبل أن يتجه إلى الأدب والكتابة كما يعد أحد أهم الكتاب المعاصرين في تركيا وترجمت أعماله إلى 34 لغة حتى الآن.
في كتابه (الروائي الساذج والحساس)، والذي كان عبارة عن تفريغ لأحد محاضراته في جامعة هارفارد الشهيرة، استعرض العمليات التي يقوم بها عقلنا عندما نقرأ الرواية، فيقول:
١. نتأمل المشهد العام ونتابع القصة. المفكر والفيلسوف الاسباني (خوسيه أورتيغا إي غايست) بفترض في كتابه عن (دون كيخوت) لـ(ثيربانتس)، بأننا نقرأ روايات التشويق والمغامرة، روايات الفروسية، الروايات رخيصة الثمن؛ الروايات البوليسية، روايات الحب، روايات التجسس وإلى آخره من الروايات التي قد تضاف إلى هذه القائمة، لمعرفة ما يحدث بعد ذلك، لكننا نقرأ الروايات الحديثة، وهو يعني بذلك ما نطلق عليه في الوقت الحاضر بـ”الروايات الأدبية”، من أجل أجوائها. وفقًا لـ(أورتيغا إي غايست)، أجواء الرواية هي شيء ما أكثر قيمة. هي مثل “لوحة مرسومة” وتحتوي القليل جدًا من السرد.
يتابع بعد ذلك:
٢. نحوّل الكلمات إلى صور في عقولنا. الرواية تحكي قصة، لكن الرواية ليست مجرد قصة. يظهر من القصة عدة مواضيع، وصف، أصوات، حوار، خيال، ذكريات، معلومات بسيطة، أفكار، أحداث، مشاهد وأزمنة. لكي تستمد المتعة من الرواية علينا الاستمتاع بهجر الكلمات وتحويل هذه الأشياء إلى صور في عقولنا. عندما نصوّر في مخيّلتنا ما تقوله لنا الكلمات، أو ما تحاول أن تقوله لنا، نحن القرّاء نكمل القصة. وفي غصون ذلك، نحفّز مخيّلتنا من خلال البحث عن ما يريد الكاتب قوله، أو ما يريد الروائي قوله، ما الذي ينوي أن يقوله، ماذا نخمن أن يقول؟ أو بمعنى آخر، من خلال البحث عن محور الرواية.
ونتساءل بعد ذلك:
٣. الجزء الآخر من عقولنا يتساءل كم من التجربة الحقيقية أخبرنا بها الكاتب في هذه القصة، ومن كم من الخيال. يلحّ علينا هذا السؤال خاصة مع أجزاء الرواية التي تثير لدينا الدهشة، الرعب، والمفاجأة. قراءة رواية يعني تساؤل مستمر، حتى في اللحظات التي نفقد فيها أنفسنا بعمق في الكتاب؛ كم من الواقع في هذا الكتاب؟ وكم من الخيال؟
ونستحضر بعد ذلك تجربتنا المعاشة لنتساءل مرة أخرى:

٤. لا نزال نتساءل: هل الواقع مثل هذا؟ هل تنسجم الأشياء المرويّة، المنظور، والوصف مع ما نعرفه من حياتنا؟ على سبيل المثال، نسأل أنفسنا: هل يستطيع المسافر في قطار الليل من (موسكو) إلى (سانت بطرسبرغ) في عام 1870 أن يجد بسهولة الراحة والهدوء لقراءة رواية، أم أن الكاتب يحاول أن يبيّن لنا أن (آنا كارنينا) مولعة بالكتب لدرجة أنها تحاول القراءة حتى وسط تشويش الضوضاء؟ في جوهر حرفة الرواية يكمن تفاؤل أساسه أن المعرفة التي تجمعنا من تجاربنا اليومية، إذا ما أعطيت شكلًا مناسبًا، يمكن أن تصبح معرفة قيّمة عن الواقع.
وبالطبع، لا تخلو قراءة الرواية من المتعة الأدبية:

٥. تحت تأثير هذا النوع من التفاؤل، كلانا يحدد ويستمد المتعة من دقة التشابه، قوة الخيال والسرد، تراكم الجمل، الشعر الغامض والصريح وموسيقى النثر. مشاكل ومتعة الأسلوب ليست في جوهر الرواية، لكنها تقترب جدًا منه. أيضًا يمكن تناول هذا الموضوع الجذاب فقط من خلال آلاف الأمثلة.
ونتساءل أيضًا أخلاقيًا:

٦. نصدر أحكامًا أخلاقية على اختيارات وسلوكيات أبطال الرواية، وفي نفس الوقت، نقيّم الكاتب على أحكامه الأخلاقية فيما يتعلق بشخصياته. الأحكام الأخلاقية هي ورطة لا مفر منها في الرواية. دعونا لا ننسى أبدًا أن الحصيلة الأفضل لفن الرواية ليس من خلال محاكمة الناس لكن من خلال فهمهم، ودعونا نتجنب التعرض للحكم من خلال منطقة الإدانة في عقلنا. عندما نقرأ رواية، ينبغي أن تكون الأخلاق جزءًا من المشهد، وليس شيء ينبع من أنفسنا ويستهدف أبطال الرواية.

كما أن الروايات تؤجج فينا نوع من الافتخار:

٧.عقولنا تنفذ كل تلك العمليات في وقت واحد، وفي غضون ذلك، نحن فخورون بأنفسنا لأننا اكتسبنا الكثير من المعرفة، العمق والفهم. خاصة بالنسبة للروايات الأدبية الجيدة، العلاقة الوثيقة التي توطدها مع النص قد تبدو لنا نحن القراء مثل نجاح شخصي. الوهم الجميل بأن الرواية قد كتبت فقط من أجلنا ينمو تدريجًا في داخلنا. الألفة والثقة التي تولد بيننا وبين الكاتب تساعدنا على التهرب، وتجنبنا القلق الشديد حول أجزاء الكتاب التي لا نستطيع فهمها، أو الأشياء التي نعارضها أو غير المقبولة بالنسبة لنا. بهذه الطريقة، نحن دائمًا ندخل في تواطؤ مع الروائي إلى حد ما. عندما نقرأ رواية، جزء واحد من عقلنا منشغل في الحجب، التغاضي، تشكيل، وبناء سلوكيات إيجابية تُشجع هذا التواطؤ. وحتى نتمكن من تصديق القصة، نختار عدم تصديق الراوي مثلما يريد لنا ذلك، لأننا نريد الاستمرار في قراءة القصة بأمانة، على الرغم من وجود انتقادات على بعض آراء، ميول وهواجس الكاتب.

كما تحفّز الروايات ذاكرتنا بعدة أشكال:

٨. بينما كل هذا النشاط العقلي مستمر، ذاكرتنا تعمل بشكل مكثف وبدون توقف. ولكي نستطيع أن نستمتع في القراءة ونستمد المعنى من العالم الذي كشفه لنا الكاتب، نشعر بأننا يجب أن نبحث عن محور الرواية السري، وتحقيقًا لهذه الغاية نحاول أن نخزّن كل تفصيل من الرواية في ذاكرتنا، وكأننا نحفظ كل ورقة من أوراق شجرة عن ظهر قلب.
وأخيرًا ؛ البحث عن محور الرواية:

٩. نحن نبحث عن لغز محور الرواية بكل اهتمام. هذه هي العملية المتكررة التي يقوم بها عقلنا أثناء قراءة الرواية، سواء كان ذلك بشكل ساذج وعفوي، وبتأمل عاطفي. ما يُميّز الروايات عن أشكال السرد الأدبية هو أنها تمتلك محورًا، أو لأكون أكثر دقة، تعتمد الروايات على اقتناعنا بأن هناك محور يجب البحث عنه أثناء القراءة. من ماذا يتألف هذا المحور؟ أستطيع القول، من كل شيء يصنع الرواية.

أحمد بادغيش

مدوّن، مهتم بالأدب والفلسفة والفنون.
زر الذهاب إلى الأعلى