آليات الكتابة، ونصائح في التعبيرالإنتاج الفني والسردي

إبراهيم الكوني في حوار

Ibrahim-Al-Koni.jpg

إبراهيم الكوني روائي ليبي ينتمي إلى قبيلة الطوارق من مواليد ٨ أغسطس ١٩٤٨ في غدامس، ليبيا.
يصنف كأحد أهم خمسون روائيا معاصرا وفقاً لمجلة لير الفرنسية، بلغ عدد مؤلفاته نحو ثمانون كتاباً.
كتب أعماله في عدة مجالات وهي: الرواية، الدراسات الأدبية والنقدية، السياسة، التاريخ. ويقوم عمله الروائي على عالم الصحراء بما فيه من ندرة وقسوة وانفتاح على جوهر الكون، وتدور معظم رواياته حول العلاقة الجوهرية التي تربط الإنسان بالطبيعة الصحراوية وموجوداتها وعالمها المحكوم بالحتمية والقدر الذي لا يرد.

في لقاء شيّق (في حديث العرب) يبيّن (الكوني) آراءه النقدية ذات البعد الفلسفي عن السياسة والايدلوجيا في العالم العربي والافريقي وأثرهما على الأدب والثقافة، تطرق فيه الحوار أيضاً عن الصحراء وفلسفة الرحيل والحب والعلاقة الانسانية ومفهوم الحرية والتأمل من خلال أعماله الروائية.

تقول ان الطوارق أمة وليست قبيلة ولكن الايدولوجية العربية ألغتهم واختزلتهم في قبيلة، من هم الطوارق في تعريف (ابراهيم الكوني)؟

من المؤسف بعد قرون من مئات السنين على وجود أمة في رحاب أكبر صحراء في العالم وأكثرها تنوعا وغنى وجمالاً كما يقول عنها علماء وخبراء الصحاري أن تظل مسألة هوية هؤلاء القوم -الذين يسكنون ذاك العالم- مجهولة او تحتاج الى تعريف، لأن من يقرأ لابن خلدون وتاريخه يستطيع أن يدرك في جملة واحدة من هم الطوارق ومن هم سكان الصحراء الكبرى بما في ذلك سكان شمال افريقيا حيث يقول: “إنهم أمة عظيمة مثلها مثل العرب والفرس والروم”، فإذا أضفنا الى ذلك أول متن في التاريخ العالمي وهو تاريخ هيرودوت الذي خصص لهم كتابا كاملا عن ليبيا يستطيع أن يَفهم أنّ هذه  الأمة أمة عريقة ذات ثقافة ثرية ولغتهم أثرت ليس فقط في الأمم المجاورة بل في كل اللغات ذات الطابع الديني، وأثرت في تكوين المفاهيم اليونانية القديمة، وكذلك في اللاتينية.
كتبت موسوعة من سبع مجلدات حول هذه القضية ولكنها لم تقرأ أو قرأت وتم تجاهلها!

هل يفضّل (ابراهيم الكوني) القول بأنه يمثل الطوارق أم العرب أم الانسانية؟ بماذا يعرف (ابراهيم) نفسه؟

بالإنسان، يعرفني الغرب والشرق العالمي من اليابان إلى أوروبا بأنني كاتب إنساني، ومن يقرأ أعمالي سوف يدرك ذلك، ولكن أعمالي لا تقرأ، أنا أقرأ كشخص، ولكنني لا أقرأ كنص،  هذه مسألة جدل النص والشخص، مسألة في غاية الأهمية وفي غاية الخطورة، الناس يستهويهم الشخص ولا يستهويهم النص، النص مسألة صعبة، النص يحتاج الى قراءة، يحتاج الى أسلحة أخرى، يحتاج الى فلسفة، معرفة أو قدر محدد من المعرفة وأيضاً إلى بطولة في اقتحام النص، لأن قراءة النص سيّما كان موزعّا بين ثمانين كتاب أصبح في عالمنا المعاصر مخاطرة كما يبدو.
الناس لا يعرفون لأنهم لا يقرأون نصي. والاغلبية الان لا تقرأ لأن العراقيل أمامها تتمثل في التقنية، تقنية المعلومات التي هيمنت على عالم اليوم وغربته عن المعرفة الحقيقية الموجودة في النص وليس في الشخص.

انت حذرتني من أن يتحول هذا الحديث الى حديث سياسي، لماذا لا تحب الخوض في السياسة؟

بالتأكيد لان عالمنا كله مسيّس، انا استنكر تسييس عالمنا، واختزال الوجود في حرف ساكن وميت هو حرف السياسة، أو ربيبتها الأيدولوجيا،لأن عالمنا لم يشهد تسييساً او تزييفاً للروح كما نشهده اليوم بفعل نزعة التسييس ونزعة الأدلجة، عالمنا كله مسيّس بالايدلوجيا سواء كانت دينية، قومية، أممية أو ليبرالية.

هل تخشى من تسييس الأدب أيضا؟

هذا حاصل في واقع الأمر، وهذه أكبر كارثة نعانيها اليوم، بالتأكيد، الأدب اليوم ليس أدباً، الأدب اليوم عبارة عن تقارير، هذه التي يطلق عليها اسم روايات، هي ليست روايات، الروايات أسطرة، لماذا لا نحتكم الى الواقع؟ هل هناك نص يمثل الأدب، ويمثله في البعد السياسي مثل نصوص كافكاً مثلا أو ماركيز، ولكنهم لا يكتبون تقارير سياسية، هم يأسطرون الواقع، لان أسطرة الواقع بطولة، تحتاج الى أدوات وإمكانيات صعبة، ولكن أَهلُ هذا العصر يستسهلون هذه الأشياء ويذهبون الى الأشياء من أقصر طريق، بدلاً من أن يذهبوا لها من أعمق طريق، “الطريق الشرعي”.

تقول: “رؤيتي للعالم غير سياسية، إنها فلسفية أو إنسانية”، لكن أين المفر من السياسة؟

أنا مشاهد، أنا أحيا مشاهدا، أنا لا أشارك في اللعبة، تصلني شظاياها بالتأكيد، وفي عالم اليوم لا يسلم أحداً من هذه الشظايا، إنني طوال الوقت أحيا مشاهدا وأحاول أن أتأمل ما أشاهد، والمشاهد هو أفضل من يُشارك في المسرحية، لأن من يشارك المهزلة أعمى، بينما المشاهد هو من يرى، لا يرى فقط ولكنه يرى بوضوح، أعني هو صاحب الرؤيا الكاملة.

أليس المطلوب من المثقف خاصة في منطقة مثل منطقة العالم العربي، مليئة بالتناقضات والأحداث، ألا يُطالب بأن يلعب دور فيها؟

أنا لا ألعب دورا، ولكن نصي هو من يقوم بذلك، إن النص هو الذي يمثلني، فأنا لا أمثل نصّي، النص هو الحكم وليس الشخص، فلنحتكم الى النصوص والكتب، المقياس هو النص، ولكن الناس يتعبون لأنهم مولعون بالمعلومة وليس بالعلم والمعرفة، فلذلك النصوص الحقيقية مغتربة، وهذه حقيقة واقعة.

أنت ترى أنه لم يعرقل النهضة العربية مثل الشعارات الأيدلوجية، وأيضا لك موقف واضح من الأيدلوجية؟

بطبيعة الحال، لو لم تعترض الأيدلوجيات النهضة العربية التي بدأت مع مطلع القرن العشرين لكان الأمر معها أمراً آخر، وأقصد هنا الأيدلوجيات بفروعها لا أستثني منها أي ركن.

لكن المهيمن على المنطقة في العصر الحالي هي الأيدلوجيا الدينية؟

اليوم الدينية، وبالأمس القومية، وما قبلها كانت الأممية،
هل ترى الناس اليوم سعداء؟ لماذا لا نتسائل عمّا إذا كنّا سعداء؟
نحن أشقياء في واقع الامر بسبب الشعارات، بسبب الأيدلوجيا، الانسان الشعاري هذا إنسان مغترب عن قيمته الانسانية الحقيقية ولهذا هو شقي.

تقول حيثما هيمنت الأيدلوجيا تجد الناس تعساء؟

نعم بالحرف الواحد، لأن الأيدلوجيا تنتج الطاغوت، والميثولوجيا تنتج اللاهوت، مع اللاهوت دائما الامر يختلف، ويجب ان نرجع الى المصدر، من أين أتت الأيدلوجيا؟ ومن أين أتت الميثولوجيا؟ الميثولوجيا أتت من إنسان البرية من الانسان الراحل، عندما كان المجتمع قطبٌ راحل وقطبٌ مستقر، القطب المستقر هو الذي أنجب الأيدلوجيا والسياسة والسلطة، في حين نموذج البرية أنتج الحرية، وأنتج الميثولوجيا، واللاهوت، ولهذا السبب جميع الأديان قَدِمت من البرية، من الصحاري.

لماذا ابراهيم الكوني متعصب للصحراء؟

أنا متعصب للصحراء، ليس لأنني بطبيعة الحال ابن الصحراء، ولكن لأنها الطبيعة الوحيدة المتسامحة والمظلومة والتي تدمر كل يوم، البيئة التي تعاني منذ الازل من التدمير والتهميش والاستعباد والإنكار، بالرغم ان عالم اليوم كله يستمد من الطاقة القادمة من الصحراء ومن الخيرات التي تمدها الصحراء، في بلد مثل ليبيا أضحت الصحراء مصدراً للماء.

تقول أن الأيدلوجيا تزاداد طغيانا، وهذا الموضوع يهم جدا الأوضاع السياسية التي تشهدها المنطقة، كيف أن الأيدلوجيا تزادا طغيانا؟

عندما قامت ثورات الربيع العربي، اعتقدنا أن هذا إيذان بغروب الأيدلوجيا، وفجأة تقفز الى المسرح أيدولوجيا أعتى وأقسى عنفا، وهي الأيدلوجيا الدينية. لقد اعتقدنا أن الثورات العربية ستصنع النهضة المفقودة، التي وأدتها الأيدلوجيات السابقة، سواء الاممية أو القومية فإذا بِنَا نتفاجأ بأننا عدنا إلى الوراء تماما، وهذا ليس فقط بسبب هيمنة الأيدلوجيات بل أيضا بسبب جنونها.

تقول: “إن إنسان العمران متوتر دائما بسبب الاحتكاك المستمر”، وتشير الى مثل طوارقي قربّوا قلوبكم وباعدوا بيوتكم، كيف نشرح هذه الفكرة؟

في غاية البساطة، لقد قلت وأقول دائما أن الحلقة المفقودة في التاريخ البشري هي اليوم الذي انفصل فيه المجتمع البشري كله الذي كان راحلاً في البداية إلى قطبين أساسيين، قطب راحل وقطب مستقر، القطب الذي اختار الاستقرار أنتج في بداية الامر حرفة، كالزراعة مثلاً، والحرفة أنتجت الملكية، الملكية أنتجت الصفقة التجارية، والصفقة التجارية أنتجت السلطة والسلطة أنتجت الأيدلوجيا من خلال السياسية أو -ما نسميه سياسة-، والأيدلوجيا هي التي أنتجت الطاغوت. في المقابل أن إنسان البرية الذي يحيى على اقتصاد شحيح تهبه الطبيعة بالدرجة الأولى، ويسمى رعوي إلتباساً، لأنه في واقع الامر ليس رعوياً، وإنما يرعى مبدأ أعظم وأنبل وهو الحرية، مبدأه الرئيسي هو الحرية، هذه الحرية هي التي أنتجت الميثولوجيا، لأن هذا الانسان ذو طابع وجداني ورومانسي ولأنه قريب للطبيعة، فلهذا السبب كانت هناك الفنون، وكانت هناك التمائم التي ولدت بعد الفنون، وهناك وُلد الدين بالمعنى الميثولوجي في بادئ الأمر، هذه الميثولوجيا هي التي أنجبت اللاهوت، فإذاً كل الديانات وكل الأفكار الكبرى قادمة من البرية.

كيف لإبن المدينة اليوم أن يجمع بين الحداثة وبين ثقافة الصحراء؟

هناك تقنية العزلة، الكثيرون يستعينون بها في سبيل استعادة الحرية المفقودة، وفي سبيل استعادة البعد المفقود في الوجود، لأن الانسان بطبيعته حالم وباحث عن الله، باحث عن فردوسه المفقود، والفردوس لو لم يكن مفقودا لما كان فردوساً، ولو وضعنا هذا الانسان في الفردوس لخرج منه كما حدث مع آدم بالضبط، إذاً هو بطبيعة الحال مبدأ مفقود، ولكنه يعيننا على أن نحيا وأن نعبر جحيم هذا الوجود، هذا الحلم بالحرية أو بالبعد المفقود أو بالفردوس المفقود هو ما يهب الانسان قيمة أخلاقية، لهذا الروح الاخلاقية قوية جداً لدى هذا الانسان الراحل البسيط العفوي، لأنه عفوي.

تقول: “دين الرحيل هو دين الحرية”، كيف يكون الرحيل دينٌ وحرية؟

الرحيل كما قلنا هو استجابة لنداء وجودي لدى كل إنسان في هذا الوجود هو الحلم بوجود معنى للوجود، ونستطيع أن نقوله بصيغة أخرى وهي البحث عن مثال، البحث عن الله، البحث عن الحقيقة، البحث عن الفردوس المفقود، كلها أسماء متعددة لمبدأٍ واحد، إذا هو حرية لأنه لا يعترف بالواقع، واقع الإنسان الراحل، واقع اللا واقع، لأنه لا وجود للعلاقة هناك، العلاقة موجودة فقط في مجتمع العمران -المكتظ، المكان الذي يسميه الانسان الراحل بـ”الحبوس“، المدن هذه حبوس، فإنسان الرحيل متحرر من العلاقة، قد يلتقي أو يجتمع مع الآخر، لكن إجتماعه لا يدوم إلا ليفترق، وحتى لو اجتمعوا، اجتمعوا متباعدين، أخبية متباعدة متناثرة في الخلاء في الطبيعة.

هل هذا يفسر إرتحالك الدائم؟ لديك رؤية وفلسفة حول ترحالك بل ذكرت أنك تؤمن بحرق السفن في مشوار الترحال، لماذا هذا الرحيل الذي لا يتوقف، عشت في مدن كثيرة جدّاً وخمساً وأربعين سنة وأنت تُمارس الترحال؟

الترحال أيضا نداء، أو استجابة لنداء ولكنه نداء يحتاج إلى شجاعة لكي تنفذه بأرض الواقع.

ما هو هذا النداء؟

نداء الحرية الذي اتحدث عنه، نداء الحقيقة، نداء الوجود نداء شيء ما وراء الأفق، وراء الوجود، إنسان لا يبحث عن حقيقته، عن هويته الإلهية خارج هذه الحدود المرئية إنسان فاشل ولن يكون سعيداً على الإطلاق، لأن السعادة موجودة في الطلب كما يقول أهل التصوف، السعادة موجودة في البحث عن السعادة، عن الله أو عن فكرة نبيلة إنسانية كبرى، ولهذا السبب أصبح الرحيل بالنسبة لي يحيى بالجينات. ولإنني إبن الصحراء يقيناً، ولكن لا يزيدها الهم الوجودي إلا تأججاً، يغذيها. لا بد أن يوجد شيء ما نسميه: “الهم بالكينونة”، إذا لا بد أن أبحث عن نفسي في الآخرين، في الأمم، في المسافات، إلى الأبد.
لا بد أيضاً أن نأخذ بوصايا الحكماء الذين يقولون: يجب أن نجعل النصف الآخر من حياتنا أو من رحلتنا هذه أجمل من النصف الاول، وعندما تأتي رحلة الوداع، علينا أن نفرح لأننا وصلنا إلى نهاية المطاف.

كتبت عن الصحراء كثيرا وما زلت، البعض يقول أن (إبراهيم الكوني) لم يعش الصحراء حقيقةً، ولكنه يتخيل الصحراء أو يحلم بالصحراء؟

لقد عشت الصحراء كما لم يحياها الذين يعيشون في الصحراء.

كيف؟

بالوجدان أو بسلطة الوجدان، أنا ولدت بالصحراء، وحبل السُرّة موجود هناك، الوتد الأصلي هناك، السر الأول موجود هناك، الكنز الأصلي موجود هناك، صحيح أَنِّي لم أعشْ في الصحراء فترة طويلة ولكنها في اللا وعي وهنا تصبح المسألة ملتبسة وأقوى عندما تسكن اللا وعي، في حين أنني أعود الصحراء وأزورها بشكل مستمر، عندما كنت أُقيم في الاتحاد السوفييتي في نهاية الستينات وبداية السبعينات، كنت أزور الصحراء كل ستة أشهر رغم الصعوبات، نوعٌ من الحج إلى الحرم، لأن الصحراء وأقولها دائماً هي حرم، وإلا لما ورد في الكتب المقدسة الأمر الإلهي الموجه إلى فرعون في سفر الخروج والذي يقول : أطلق شعبي ليعبدني في البرية، لم يقل له أطلق شعبي ليذهب إلى أرض الميعاد، وهذا يعني أن البرية هي المسجد أو المعبد، هي الحرم.
لماذا قَبِلَ الرب قربان هابيل ولم يقبل قربان قابيل؟
هابيل يمثل الإنسان الراحل، فهو راعي، أما قابيل فيمثل الإنسان المستقر لأنه فلاح، إذاً الرب رفض قربان الإنسان المستقر وقبل قربان الانسان الراحل لأنه هو إبن الحرية، لهذا السبب كان القديس اوغستين يقول: “القبيلة الإلهية هي القبيلة الراحلة والقبيلة الدنيوية هي القبيلة المستقرة -قبيلة قابيل-، ولهذا السبب أيضاً حدثت أول جريمة في التاريخ بسبب الغيرة والحسد”.

تقول: “إن عالم الصحراء عالم صارم جداً، الأخلاق هي من تحكمه وهناك أيضا ثنائية العرف والقانون”؟

هذه بالنسبة لمسألة المقارنة بين المجتمع الراحل والمجتمع المستقر، المجتمع الراحل قانونه العرف أو الناموس الأخلاقي، والمجتمع المستقر قانونه القوانين، فهو اضطر إلى أن يسن القوانين ليضع حدًّا لاعتداء الإنسان على أخيه الإنسان، في حين أن طبيعة العلاقات في الصحراء طبيعة غير نفعية بالتالي تصبح غير عدوانية ولهذا السبب استطاع أهل الصحراء أن يؤسسوا لأنفسهم ناموس آخر، كما يرد في الكتب المقدسة النص القائل: “هؤلاء الذين ليس لديهم الناموس وعملوا ما في الناموس، هم في الواقع ناموسٌ لأنفسهم!”.
فهؤلاء أسسوا ناموس إلهى بالعلاقة الفعلية ولم يضطروا إلى تأليف قوانين كما هو الحال لدى الانسان المستقر.
هذه ليست مفاضلة بين القطبين ولكن هذا الواقع.

الصحراء هي مرحلة من عمر المجتمعات والشعوب كما نلاحظ، لا يمكن أن تعيش المجتمعات إلى الأبد بهذا النظام القبلي معتمدة على العرف. أليس من سنة الحياة أن تتحول المجتمعات من البدائية إلى الحداثة؟

قد يحدث تلاقح، أو الهجرة من هنا إلى هناك أو العكس، وللأسف أن إنسان البرية -في الغالب- هو الذي تلتهمه المدنية ويفقد هويته وروحه وحريته.

في رواية (عشب الليل) تقول: “ما إن يعلم الإنسان بأن له أخاً يحيى في الرقعة المجهولة حتى يصبح لا بد من أن يحتال ويبدع ويركب الريح ليصل إليه، يصل إليه يرتمي بين ذراعيه، يحتضنه بحرارة ويبكي بدموع الحنين بين يديه ثم يستغفله في الظهر الطعنة المميتة، هذا هو الإنسان!”
هل تحاول قول : أن الإنسان غدار بطبعه؟

الذي يحدث هنا هو بسبب العلاقة، والعلاقة دائما عداء!
ولهذا يُقال الجحيم هو الآخر.
عندما يقول (أرسطو): “الإنسان كائن اجتماعي” فهو لم يخطئ، لأنه كائن إجتماعي وإجتماعي شقي.
عندما يصبح الانسان اجتماعياً يصبح شريراً، وهذا أشبه ما يكون بالدراما، حين لا نستطيع ان نستغني عن الانسان فـ نهرع له ونرتمي بين يديه كالطفل ولكن لا نلبث قليلا بحكم العلاقة ألا ويحدث الصراع، كصراع قابيل وهابيل.

من مقولاتك في رواية (رسول السماوات السبع): “نحن لا نُميت إلا من نحب”.

هذه دراما الحب،
الحب علاقة تريد أن تأله المحبوب، والمحبوب لا يستطيع أن يتأله أبدا فتقتله، لكي تتماهى معه،
لكي تحبه كما ينبغي يجب أن تحبه في الموت، وفي الواقع لا حب إلا في الموت،
ما هو الموت؟ الموت هو الحرية في بعدها الأقصى.

من مقولات “الناموس” : “يتلذذ الانسان في الاجتماع الى الناس، ويجد أشد الصعوبات في الاجتماع الى نفسه”!
هل يحب الاستاذ ابراهيم العزلة؟

بالتأكيد، بدون عزلة لا إبداع، ولا نبوءة.
من هو النبي الذي خرج إلى العالم بدون عزلة، ألا تذكرنا العشرون عاما بـ غار حِراء، الثمن الذي يدفعه كل نبي؟
ألا يذكرنا تيه الأربعون عاماً في صحراء سيناء بذلك؟
في الحقيقة، كل الأفكار الكبرى نتجت عن التأمل، والتأمل لا يحدث إلا بعزلة.

زر الذهاب إلى الأعلى