آليات الكتابة، ونصائح في التعبير

اعترافات ميشل فوكو في الكتابة

ميشال فوكو (1926 – 1984) فيلسوف فرنسي، يعتبر من أهم فلاسفة النصف الأخير من القرن العشرين، تأثر بالبنيويين ودرس وحلل تاريخ الجنون في كتابه (تاريخ الجنون)، وعالج مواضيع مثل الإجرام والعقوبات والممارسات الاجتماعية في السجون في كتابه (المراقبة و المعافبة). ابتكر مصطلح “أركيولوجية المعرفة”. أرّخ للجنس أيضاً من “حب الغلمان عند اليونان” وصولاً إلى معالجاته الجدلية المعاصرة كما في (تاريخ الجنسانية).

في كتاب (حوارات و نصوص) قدّم ميشال فوكو  اعترافات ثمينة عن تكوينه الفكري وأهدافه ومسيرته، وذلك عبر الحوار الذي أجراه معه روجيه بول دروا الباحث المعروف في أنماط تفكير البوذية والبرابرة.

و اقتبست من الحوار الأوّل ما يختص باعترافاته حول الكتابة :

لماذا تقول أنك لست كاتباً ؟ 
الأمر بسيط. أعتقد بضرورة امتلاك وعي حِرفيّ في هذا الميدان. و بقدر ما يجب صنع القبقاب يجب كذلك صنع الكتاب.
و ينطبق هذا الأمر كذلك على أي كتلة من الجمل المطبوعة سواءً في جريدة أو مجلة و لاتعدو الكتابة أن تكون كذلك.
يجب أن تصلح الكتابة للكتاب. و ليس الكتاب هو الي يكون في خدمة هذا الكيان المهم و المقدّس جداً الآن و الذي ستصنعه الكتابة.

قلت لي إني غالباً مّا أستعمل الالتواءات الأسلوبية التي يبدو أنها تبرهن على أني أحبّذ الأسلوب الجميل. ألا فقد صدقت، هناك دائماً نوع من أنواع المتعة التي قد تكون شبقية بشكل متدنَّ، في العثور على جملة جميلة، عندما يضجر المرء ذات صباح من كتابة أشياء عادية. و يتهيّج المرء بعض الشيء عندما يستغرق بالأحلام و فجأة يجد الجملة التي ينتظرها. فيحس بالسعادة و يعطي ذلك دفعاً للذهاب إلى ماهو أبعد. يوجد شيء من هذا كله بطبيعة الحال.

لكن هناك أمر آخر – إذا أردنا أن يصبح الكتاب أداة يمكن أن يفيد منها الآخرون – وهو ضرورة أن يوفر المتعة للقراء الذين يطالعونه. يبدو لي أن هذا الأمر يمثّل واجباً أولياً بالنسبة لمن يقدم هذه البضاعة أو هذا الشيء الحرفيّ: يجب أن يوفّر هذا الشيء المتعة!
هناك متعتان إذاً : متعة الكاتب و متعة القارئ ..
 بكل تأكيد. كم من اكتشافات و مهارات أسلوبية توفر المتعة لمن يكتب و لمن يقرأ! إنني أحبذ جداً هذا الأمر. لا أجد أي مبرّر لإقصاء هذه المتعة كما أنني لا أجد مبرّراً لفرض الضجر على أناس أتمنى أن يُقدموا على قراءة كتابي. يتعلق الأمر بالتوصل إلى شيء يكون في منتهى الشفاقية على مستوى مايُقال مع وجود نوع من السطح البرّاق في الوقت نفسه. يجعلنا نجد متعة في مداعبة النص واستخدامه و تأمّله و إعادة تناوله. هذا هو مغزى الكتاب بالنسبة لي.
و لكن مرة أخرى لبس ذلك بالكتابة. أنا لا أحب الكتابة. أن يكون المرء كاتباً أمر يثير السخرية حقاً في نظري.
لو كان لي أن أعرّف نفسي و أن أقدمها بصورة مدّعية، و لو كان لي أن أصف تلك الصورة التي تصاحب كل شخص منا و التي تضحك باستهزاء ثم تقودك في نفس الوقت، فإنني سأقول بأنني حرفيّ و سأكرر القول بأنني صانع أسهم نارية. و أعتبر كتبي بمثابة ألغام و كتل من المتفجرات .. ذلك ما أتمنى لها أن تكون.
على هذه الكتب في اعتقادي أن تخلّف أثراً مّا، و لذلك لا بد من أن يبذل المرء مافي وسعه. لكن على الكِتاب أن يختفي عن طريق تأثيره نفسه و داخل تأثيره، لاتعدو  الكتابة أن تكون وسيلة و ليست الهدف. كما أن ” الأثر المكتوب ” ليس الهدف في حد ذاته! بحيث أن تعديل أي كتاب من كتبي قصد إدماجه في وحدة الأثر حتى يشبهني أو يشبه الكتب التي ستأتي فيما بعد، لا يحمل أي دلالة بالنسبة لي.
– أليست الكتابة بالنسبة إليك ضرورة رغم كل شيء؟
كلا، ليست ضرورة على الإطلاق. و لم أعتبر أبداً أن الكتابة شرف أو عمل خارق. أقول عادةً: متى سيأتي اليوم الذي أنقطع فيه عن الكتابة! لا لأنني أحلم بالذهاب إلى الصحراء أو إلى مجرد الشاطئ بل لأنني أحلم بالقيام بشيء آخر باستثناء الكتابة.
كما أنني أقول ذلك بمعنى أكثر دقة ألا وهو : متى أشرع في الكتابة دون أن يحيل فعل الكتابة إلى ” الكتابة ” ؟ دون الجوء إلى هذا النوع من الاحتفالية التي تتطلب جهداً كبيراً .
الأشياء التي أنشرها، هي أشياء مكتوبة بالمعنى السلبي للكلمة: لها رائحة الكتابة. و عندما أشرع في العمل يكون الأمر متعلقاً بالكتابة ليفرض ضمنياً طقوسا كاملة و صعوبة معينة. أدخل في نفق، لا أريد رؤية أحد بينما أرغب على العكس في أن تكون كتابتي سهلة من أول مرة، و لكنني لا أصل أبداً إلى هذا المبتغى. و من الضروري التصريح بالأمر، لأننا لا نحتاج إلى إقامة خطابات طويلة ضد ” الكتابة ” إذا لم نعرف أنني أواجه أشد العذاب بسبب عدم ” الكتابة ” عندما أشرع في الكتابة. أريد أن أتخلص من هذا النشاط المنغلق الاحتفالي، المنطوي على نفسه و المتمثل بالنسبة إلي في وضع كلمات الورق.
لكنك تجد في هذا العمل عمل الورق و الحبر متعة حقيقية ” ؟
 المتعة التي أجدها تعارض في الحقيقة المفهوم الذي أريده عن الكتابة. فأنا أريدها أمراً عابراً يخرج هكذا تلقائياً يُكتب في زاوية طاولة، يقدم للآخرين يُتداول، قد يكون منشوراً أو مُلصقاً أو مقتطفاً من فيلم أو خطاباً عاماً أو أي شيء آخر ..
و أقول مرةً أخرى إنني لا أتوصل إلى الكتابة على هذا النحو، أجد في هذا الأمر بالطبع مايوفر لي المتعة. و أكتشف بعض الأشياء الصغرى لكن هذه المتعة لا تسعدني.
إنني أحس إزاء الكتابة بحالة من القلق، لأنني أحلم بنوع آخر من المتعة يختلف اختلافاً كلياً عن نوع المتعة المألوفة التي يحس بها كل الناس الذين يكتبون. ننزوي أمام ورق أبيض، الذهن خالٍ من الأفكار ثم تصبح جملة من الأشياء حاضرة شيئاً فشيئاً، بعد ساعتين أو يومين أو أسبوعين، داخل عملية الكتابة نفسها.
النص موجود و نعرف عنه أكثر بكثير من ذي قبل. كان الذهن خالياً ثم أصبح ملآنا، ذلك أن الكتابة ليست إفراغاً بل هي ملء. و بفراغها الخاص بها نصنع الوفرة ( الزخم ). الكل يعلم ذلك. هذا الأمر لا يسليني!
فبماذا تحلم إذن؟ بأي نوع من الكتابة ؟
– بكتابة غير متصلة، لا تتبيّن أنها كتابة، تسخدم الورق الأبيض أو الآلة أو مقبض القلم أو ملامس الآلة، وهكذا وسط جملة من الأشياء الأخرى قد تكون الفرشاة أو الكاميرا. ويبث كل ذلك – وهو ينتقل من هذا إلى ذاك – نوعاً من العصبية و التشوش.
و هل لديك رغبة في التجربة.؟
نعم، لكن ينقضي ذلك النوع ممّا لا أعرف كيف أسميه من العصبية إلى الموهبة.
وفي النهاية أعود دائماً إلى الكتابة، فأحلم بنصوص موجزة. لكن ذلك دائماً يفضي إلى كتب ضخمة!
و رغم كل شيء فإني أحلم دائماً أن أكتب كتاباً خاصاً بحيث لا يكون لسؤال مثل: ” من أين تنبع هذه الأشياء ” ؟ من معنى.
أحلم بفكر أداتي حقاً. لا يهم أن نعرف منبعه، فهو يأتي هكذا . الأساس هو أن نجد بين أيدينا أداة سيُتاح لنا بواسطتها تناول طب الأمراض النفسية أو مسألة السجون.

 

هاجر العبيد

مشرفة نادي القراءة بطيبة، عضو مؤسس لنادي قبَس الثقافي بجامعة طيبة، مهتمّة بالعلوم الإنسانيّة و التَاريخ و الأديان.
زر الذهاب إلى الأعلى