المعرفة والفكر الفلسفي

الإخفاقات الثلاثة للتفكير، كما يذكرها (جون لوك)

جون لوك (1632 – 1704) هو فيلسوف تجريبي ومفكر سياسي إنجليزي. ولد في رنجتون في إقليم سومرست وتعلم في مدرسة وستمنستر، ثم في كلية كنيسة المسيح في جامعة أوكسفورد، حيث انتخب طالباً مدى الحياة، لكن هذا اللقب سحب منه في عام 1684 بأمر من الملك. وبسبب كراهيته لعدم التسامح البيورتياني عند اللاهوتيين في هذه الكلية، لم ينخرط في سلك رجال الدين. وبدلاً من ذلك أخذ في دراسة الطب ومارس التجريب العلمي، حتى عرف باسم (دكتور لوك).

يُعتبر (لوك) اليوم أحد رؤوس ومؤسسي الفلسفة الليبرالية المعاصرة. وفي كتاب جمع (الأعمال الفلسفية الكاملة)، نقله إلى العربية الأستاذ (عبدالكريم ناصيف)، يقول (لوك) في مقدمة مقالته، التي حملت عنوان (في مسلك الفهم): 

الملاذ الأخير الذي يلوذ به الإنسان، في سلوكه ذاته، إنما هو فهمه. إذ رغم أننا نميز ملكات العقل، ونعطي المركز الأعلى للإرادة، كما نعطيه للوكيل المفوض، إلا أن الحقيقة هي أن الإنسان الذي يعد هو الوكيل، يقرر بنفسه هذا العمل أو ذاك بشكل طوعي، بناءً على معرفة سابقة ما، أو مظهر من مظاهر المعرفة في الفهم.

يبتدئ بعد ذلك (لوك) أحد أجزاء مقالته، والتي حملت عنوان “التفكير”، بافتتاحية بسيطة عن إخفاقات الناس في التفكير، فيقول:

إضافة إلى الحاجة للأفكار المبتوت بها، وإلى الحكمة والممارسة لدى اكتشاف الأفكار الوسيطة وترتيبها، هناك ثلاثة إخفاقات يقع فيها الناس، فيما يتعلق بتفكيرهم، حيث إن هذه الملكة تعاق لديهم وتُمنع من تقديم الخدمة التي يمكن أن تقدمها، والتي صُممت من أجل تقديمها. ثم من يفكر بأعمال وأقوال البشر سيجد نقائص غالية جدًا وملحوظة جدًا من هذا النوع.

بعد ذلك، يبدأ (لوك) بسرد هذه النقائص والإخفاقات، فيقول عن اختيار التبعية، كأولى النقائص:

أولى هذه النقائص أن هناك أناسًا لا يفكرون بالمطلق، بل يعملون ويتبعون نموذج الآخرين، سواء أكان هؤلاء آباءهم، أو جيرانهم، أو رجال دينهم أو أي أشخاص آخرين يختارونهم لإيمانهم الضمني بهم، وبذلك يوفرون على أنفسهم مشقة التفكير وإزعاجات التمعن العميق بأنفسهم.

يتطرق بعد ذلك (لوك) إلى ثاني النقائص، فيقول:

النوع الثاني هو أولئك الذين يضعون العاطفة موضع العقل، ويصممون على أن يحكموا بذلك على أفعالهم وحججهم، من دون أن يستخدموا عقولهم، ولا يستمعون لعقول الناس الآخرين، أكثر مما يناسب مزاجهم، ومصلحتهم أو جماعتهم، ومن الممكن أن يلاحظ المرء عمومًا أن هؤلاء يرضون بكلام ليس فيه أفكار مميزة بالنسبة لهم، رغم أنهم في قضايا أخرى، يطرقونها بحيادية لا تحيز فيها، كما لا تعوذهم القدرات على الكلام وسماع العقل، حيث لا تكون لديهم نية ضمنية تعيقهم عن تتبع طريقها.

أما آخر النقائص، ، فيقول (لوك):

النوع الثالث هو أولئك الذين يتبعون العقل بكل جاهزية وإخلاص، لكن لحاجتهم لذلك الذي يمكن أن ندعوه حسًا واسعًا، سليمًا كامل الدائرة، لا تكون لديهم نظرة كاملة لكل ما يتعلق بالمسألة، ويمكن بالتالي أن يتخذوا قراراتهم بلحظة. إننا جميعًا قصار النظر، وغالبًا جدًا لا نرى إلا جانبًا واحدًا من المسألة، كما تقصّر نظرتنا عن الإحاطة بكل ما يتعلق بها. هذا العيب لا يخلو منه إنسان على ما أعتقد، فنحن جميعًا نرى الأمور جزئيًا كما نعرف جزئيًا، لذلك لا عجب أن لا نستنتج الصحيح من نظرتنا الجزئية.

كما يقول (لوك) أيضًا في أحد أجزاء مقالته، بعدما قام بسرد جميع النقائص:

فملكة التفكير نادرًا ما تخدع، أو لا تخدع البتة أولئك الذين يثقون بها، كما أن نتائجها، مما تتبني عليه، تكون واضحة وأكيدة، لكن ذلك الذي يضللنا في الأغلب هو أن المبادئ التي نستخلص منها الأسس التي نبني عليها تفكيرنا، تكون جزئية، لذلك تهمل شيئًا ما خلفها لا يدخل في حساباتنا، لكي نتخذ القرار الصحيح بالضبط.

أحمد بادغيش

مدوّن، مهتم بالأدب والفلسفة والفنون.
زر الذهاب إلى الأعلى