الإنتاج الفني والسردي

الجيل الضائع في الأدب الروسي الحديث .. الأدباء الشباب، ضحايا الأدب المستعاد

بعد تخفيف الرقابة على المطبوعات في فترة البيريسترويكا (وهي كلمة روسية بمعنى إعادة الهيكلة، أو إعادة البناء)، شهدت روسيا بين عامي (1986 – 1989) انفجاراً ثقافياً حقيقياً، تمثّلت في نشر كم هائل من الأعمال الأدبية والفكرية المحظورة طيلة الحقبة السوفيتية السابقة لطائفة كبيرة من أشهر الكتّاب الرّوس الذين ينتمون إلى عدة أجيال متعاقبة. والكثير من هذه الأعمال تم كشف النقاب عنها لأول مرة. وهذه ظاهرة فريدة، أُطلِق عليها اسم “الأدب المستعاد” الذي أقبل عليه القاريء الروسي بنهم شديد، لنهل النصوص الإبداعية التي تكشف الحقيقة عن الثورة البلشفية (ثورة أكتوبر 1917) والحرب الأهلية وأحداثهما الدراماتيكية، والأساليب التي اتبعها البلاشفة لبناء “العالم الجديد” المزعوم .

وقد تسابقت المجلات الأدبية المركزية -التي يسميها الروس بـ”المجلات السميكة “- في نشر “الأدب المستعاد“، وامتنعت تماماً عن نشر نتاجات الجيل الجديد من الكتّاب والشّعراء الرّوس. وقد يستغرب القارئ إذا قلنا أن تلك المجلات هي التي تقرر مصير أي موهبة أدبية جديدة في روسيا، بصرف النظر عن النظام القائم، هكذا كان الأمر في كل العهود منذ صدور أول مجلة من هذا النوع في روسيا وهي مجلة (بيبليوتيكا دليا جتينيا) أو “مكتبة للقراءة” في عام 1834.

إن نشر أي نص إبداعي في مجلة أدبية مركزية يعد إشهارا للمبدع الناشيء، واعترافا بموهبته في الوسط الأدبي والثقافي، ولدى دور النشر، أما النشر في المجلات الهامشية فإن مصيره الإهمال والنسيان، وإن كان المبدع ذا موهبة. هذا تقليد أدبي راسخ في روسيا. كل الكتّاب الكلاسيكيين الروس، والكتاب السوفيت ظهروا لأول مرة على صفحات مثل هذه المجلات.

 سجلت المجلات “السميكة” أرقاماً قياسية في مبيعاتها. فعلى سبيل المثال لا الحصر بلغ عدد النسخ المطبوعة من مجلة (يونست) في تلك الفترة حوالي خمسة ملايين نسخة. وهذا رقم قياسي في تاريخ الصحافة الأدبية الروسية والعالمية. كانت هذه المجلة المتخصصة في نشر أعمال الأدباء الشباب، والمنبر الرئيسي دائماً لنشر وإشهار الأعمال الأدبية المتميزة للجيل الجديد، من الكتّاب والشّعراء والنّقاد. أما في فترة “البيريسترويكا” فقد توقفت تماما عن نشر مثل هذه الاعمال، وكرّست صفحاتها لـ”الأدب المستعاد“. وربما كانت المجلة محقّة في ذلك. فقد كان القاريء الروسي متشوّقا لقراءة الروائع الأدبية، التي دفع مبدعوها حياتهم من أجلها، وليس الاطلاع على نتاجات الأدباء  الشباب الذين يحاولون شق طريقهم في عالم الأدب.

كان البلاشفة في العهد القيصري ينادون بحرية التعبير والعدالة الاجتماعية، ولكنهم بعد وصولهم إلى السّلطة شَرَعوا تدريجيّاً بالقضاء على كلِّ الحرِّيَّات العامَّة والخاصَّة، ومنها حرية التعبير عن الرأي بشتى أشكاله، وفرضوا رقابةً صارمةً على المطبوعات، التي أصبحت كلها حزبية وحكومية، بعد إلغاء دور النشر والصحف والمجلات الخاصة، ومنعوا نشر أو عرض أي نتاج إبداعي لا يتوافق مع الأيديولوجية الشيوعية. الرقابة البلشفية كانت أكثر قسوة بكثير من الرقابة القيصرية.

أثارت الأساليب البلشفية المتطرفة في استئصال “البورجوازية” ومصادرة أموالها وممتلكاتها، استياء معظم الكتّاب والشعراء المعروفين، وقد فضّل الكثير منهم الهجرة إلى العواصم الغربية. أما الأدباء الذين ظلوا في داخل روسيا، فقد انقسموا بين مؤيد ورافض للنظام البلشفي. وأدرك الرّافضون بعد حين، أن ما يكتبونه قد لا يَرى النور في روسيا أبداً. وصدق ظنهم، فقد امتنعت المجلات “السميكة” ودور النشر السوفيتية عن نشر نتاجاتهم، أو ظلت حبيسة الأدراج المخفية عن أنظار المخبرين لدى الأقارب أو الأصدقاء الحميمين أو تم تهريبها لنشرها في الخارج. وكان كل عمل أدبي روسي ينشر في الخارج، يعتبر عملاً معاديا للثورة، و للنظام الجديد في نظر قيادة الحزب الحاكم، ويحظر نشرها أو تداولها في داخل البلاد.

يتضمن “الأدب المستعاد” عدداً كبيراً من الأعمال الإبداعية، لطائفة من خيرة الأدباء الروس من كتّاب وشعراء، الذين أعدموا أو سجنوا لسنوات طويلة، بعد انتزاع اعترافات كاذبة عنهم وإدانتهم في محاكمات صورية بتهم ملفقة. وكان الحكم عليهم ينص أيضاً على إزالة أسمائهم ومؤلفاتهم أينما وردت، في الموسوعات والكتب والبحوث والمقالات، ومنع أي إشارة إليهم في المناسبات الثقافية. وكانت “جريمتهم” أنهم لم يكونوا يكتبون كما يشتهي القسم الأيديولوجي في الحزب، بل يكتبون الحقيقة، ويصوّرون الواقع فنيا دون تزييف أو تلميع. ومن هؤلاء (إسحاق بابل) (1894- 1941)  . وتعد مجموعة قصص (حكايات من أوديسا) [1925]، ورواية (سلاح الفرسان) [1931]، من أهم أعماله الإبداعية. وبعد اعتقاله في عام 1939 اختفت أعماله وكتاباته، ومات في المعتقل في ظروف غامضة.

أما أعمال (أندري بلاتونوف) (1899 – 1951) الروائية بأجوائها التشاؤمية،  فقد ظلت ممنوعة من النشر حتى عام 1987. ومنها  (الحفرة) و(تشيفنغور)، و(بحر الصبا) التي تعد من أهم أعماله الإبداعية.

تروي (الحفرة) [1931] قصة عمل فريق من العمّال في إقامة مبنى سكني يخصص للبروليتاريا، وكان هؤلاء العمّال يتوجّهون بين فترات العمل إلى القرية المجاورة لتطهيرها من الفلّاحين الأغنياء أو الملّاك ثمّ يرمون جثامينهم في عرض البحر. هكذا يُصوِّر المؤلِّف بداية العمل الجماعي في روسيا.

لم يُنجز من المشروع سوى الحفرة، التي تحوّلت في نهاية المطاف إلى مقبرة جماعية. ومعنى القصّة واضح وهو استحالة بناء الجنّة الشِّيوعيّة على معاناة الضحايا الأبرياء.

أمّا الشّاعر (أوسيب ماندلشتام) ( 1891- 1938 ) -وهو أحد أعظم الشُّعراء الرّوس في القرن العشرين- فقد ضحّى بنفسه من أجل قصيدة تهكّميّة بستالين بعنوان “جبلي الكرملين” لم تر النور إلا في في عام 1986، وترجمت على الفور إلى عشرات اللغات الأجنبية من قبل شعراء غربيين معروفين. وهي أشهر قصيدة تهكمية في القرن العشرين.

أما (ميخائيل بولغاكوف) (1891 – 1940)  فقد شجب الثورة في روايته القصيرة (قلب كلب) التي كتبها في عام 1925، ونشرت في الخارج في الستينات، بعد وفاة الكاتب بحوالي عشرين عاماً، ولم تنشر في روسيا إلا في عام  1987، فقد كان من الكتّاب المغضوب عليهم، ومنع من النشر تماماً في السنوات الأخيرة من حياته. القارئ يعرف (بولغاكوف) من خلال روايته الرائعة (المعلم ومرغريتا). ومن أهم أعماله الأخرى رواية (الحرس الأبيض)، و مسرحية (أيام آل توربين) وهو يعد من أهم الكتّاب الروس في النصف الأول من القرن العشرين.

لم يقتصر الحظر والتضييق على هؤلاء المبدعين فقط، بل شمل مبدعين روس آخرين من ألمع الشعراء والكتّاب، ومنهم أهم شاعرتين روسيتين في القرن العشرين وهما (تسفيتايفا) و(أخماتوفا) اللّتان منعتا من نشر العديد من  أعمالهما، والشاعر (بوريس باسترناك) الذي تمّ حظر نشر روايته (دكتور جيفاكو) في داخل روسيا حتى عام 1987. وشمل الحظر حتى بعض أعمال (مكسيم غوركي). والقائمة طويلة. ولا نرى جدوى من ذكر أسماء الكتّاب والشعراء، الذين تعرّضوا للاضطهاد، ممن لم يترجم أي عمل من أعمالهم الإبداعية إلى اللغة العربية.  

أدب المعتقلات:

ثَمَّة العديد من أهل الفكر والقلم، الذين قضوا سنوات طويلة في معتقلات العمل القسري الشاق، لعل أشهرهم (فارلام شالاموف) (1907- 1982)، الذي صوّر بعمق معاناة المعتقلين في مجموعته القصصية  الشهيرة (حكايات كوليما). وكوليما شبه جزيرة تقع في أقصى حدود سيبيريا قضى فيها (شالاموف) سبعة عشر عاما ( 1936-1953). وقد لقيت (حكايات كوليما) عند نشرها لأول مرة خلال فترة “البيريسترويكا” رواجاً عظيما. (شالاموف) يعتقد أن الظروف اللاإنسانية في تلك المعتقلات الرهيبة لا تطهّر الإنسان، بل تفقده آدميته، وتحوله إلى كائن آخر فاقد لكل ما يميز الإنسان من قيم.

 أما (ألكسندر سولجينيتسن) (1918- 2008) فقد حكم عليه بالسجن ثمان سنوات مع الأشغال الشاقة، بتهم مفبركة، ولم تشفع له ميداليات الشجاعة التي نالها في حينه عن اشتراكه في معارك الحرب الوطنية العظمى ضد الجيش الهتلري. وأعيد إليه الاعتبار بعد وفاة (ستالين) حيث، عمل مدرّسا، وكتب روايته الشهيرة (يوم واحد من حياة ايفان دينيسوفيتش)، التي يصف فيها يوما واحدا من حياة بطل الرواية في المعتقل. وقد تدخل (خروتشوف) شخصيا للسماح له بنشر الرواية. أما رواياته اللاحقة ومنها رواية (أرخبيل غولاغ) فقد كتبها وبسريّة تامّة، ولم تنشر إلا في عام 1987. وكان (سولجينيتسن) على النقيض من (شالاموف) يرى أن المعتقل يسهم في تطهير الإنسان من النوازع الدنيوية، وقد دخل في سجال طويل مع (شالاموف) حول هذا الموضوع.

نتاجات الروس المهاجرين والأجانب:

كان  الإعلام السوفيتي يزعم أن الطاقة الإبداعية للكتاب والشعراء الروس المهاجرين قد خمدت، ولكن الحقيقة هي أنهم قد أبدعوا أعمالاً قيّمة نشرت في بلدان اللجوء، وظلّت محظورة في روسيا حتى منتصف الثمانينات من القرن العشرين. وعندما  أخذت أعمالهم طريقها إلى المجلّات الأدبية المركزية، أصيب القرّاء بدهشة كبيرة، حين اكتشفوا أنّ ثمّة أدباً روسيّاً في الخارج، متنوع الاتجاهات والأساليب، لا يقلّ روعة عن أعمال كبار الأدباء الروس المغضوب عليهم في الداخل. أعمال هؤلاء المبدعين المهاجرين سمحت بتكوين صورة كاملة للهزّات التّاريخيّة التي تعرّضت لها روسيا في النصف الأول من القرن العشرين. ونكتفي هنا بمثالين بارزين فقط من هذه الأعمال.

كتاب (الأيام الملعونة) لـ(أيفان بونين) (1870 – 1953) يتضمن يومياته عن أحداث عامي 1918- 1919، والكارثة القوميّة التي عصفت بروسيا في أعقاب ثورة 1917. وقد أجمعت الأوساط الثقافية في الدول الغربية على الإشادة بالكتاب عند نشره في باريس عام 1936، بل إن البعض من الباحثين الأجانب اعتبره ذروة إبداع (بونين).

كان  المثقّفون في الداخل يعرفون وجود هذا الكتاب. بعد أن ظهرت بعض التعليقات النابية عن الكاتب في الصحافة السوفيتية، ولكن الكتاب ظل ممنوعا من النشر والتداول في روسيا حتى عام 1987.

يصف (بونين) في هذا الكتاب الحياة المدمرة في المدن والقرى، حيث تركت الأراضي الزراعيّة مهملة ولم يزرع أو ينتج أي شيء طيلة خمس سنوات. ويتساءل الكاتب: “كم من النّاس يسيرون اليوم في ملابس منزوعة من جثامين الموتى؟”. (بونين) يصدر حكماً قاسياً ليس على الثوار فقط، بل على الشعب الروسي أيضاً، لأنه سمح لفئة من المتعصبين أن يتحكّموا في حياته ومصيره، وهو يندد في يومياته -التي كتبها  إثر الأحداث الساخنة يوماً بيوم-  باحتكار الحقيقة من قبل الثوار. ويصرخ: “نحن أيضاً بشر”، ويطالب بتطبيق معيار أخلاقي واحد على “نحن” و “هم” مدافعاً عن القيم الإنسانية المشتركة.

ويقول أن كل ما يقترفه الثّوّار من أفعال مسموح ومغفور لهم، في حين أنهم انتزعوا من “البيض” كل شيء: “الوطن، والآباء، والأخوات، والأقارب، والمهود، والمقابر”. لأنهم –حسب الثوار- ليسوا بشراً ولا يمكن أن يكون لهم رأي في ما يحدث في بلادهم.

في (الأيام الملعونة) يروي (بونين) قصة أثارت دهشته، حيث أقدم الثوار خلال نهب أحد المنازل، على نتف ريش الطواويس، وتركها مدماة تنتفض من الألم في الفناء. “الطاووس المسكين لم يكن يعرف أنه طير بورجوازي”.

ويصف كاتب مغترب آخر هو (ايفان شميليوف) في رواية (شمس الموتى) المجاعة الرهيبة في شبه جزيرة القرم، حيث كان هو شخصيا شاهداً وضحية لها. شخصيات الرواية أناس حقيقيون، من سكان مدينة (آلوشتا) الساحلية. ويمتد زمن الرواية عاماً واحداً، من الربيع إلى الربيع التالي. وهي وثيقة فنية–تأريخية مدهشة لتلك الحقبة.

في ظل النظام الجديد تحولت أراضي القرم الخصبة إلى صحراء محروقة. البلاشفة الذين نجحوا في انتزاع السلطة، لم يحاولوا تنظيم الناس للعمل المنتج، ولم يكن لهم همّ سوى فرض العقوبات على السكان، وسلب ما لديهم من مال وممتلكات. اسم الرواية يشير إلى الانتصار التام للموت على الحياة. الناس يترنحون من الجوع عند المشي. المجاعة دفعت الناس إلى أكل كل ما تقع في أيديهم من حيوانات وطيور ونباتات. السُلطة الجديدة لا تلتفت إلى معاناة السكان ولا تهتم بمصائرهم وتركتهم يموتون من الجوع. (شميليوف) يصور كيف أن الجوع يدمر أخلاق الإنسان. الجيران الآن يكره بعضهم البعض الآخر، وبوسعهم سرقة آخر قطعة خبز. إنه زمن الجنون بعينه.

ولم يقتصر الحظر في الحقبة الستالينية على الأدباء الروس المغضوب عليهم، بل شمل أيضاً نشر أو تداول الأعمال الأدبية والفكرية لعدد كبير من الكتاب والمفكرين والفلاسفة الأجانب، بذريعة أنها مضرة، وتتنافى مع الأيديولوجية الماركسية. ومنها نتاجات (جيمس جويس) و(أورويل) و(كافكا)، وكتب (فرويد)، و(نيتشه)، و(سارتر)، وغيرهم، التي اطلع عليها القارئ الروسي بعد عشرات السنين من صدورها.

ونرى على هذا النحو، كيف أن الحرية لها بعض الجوانب السلبية أحياناً، مثلما حدث في روسيا خلال سنوات البيريسترويكا، عندما حجب “الأدب المستعاد” النصوص الإبداعية للأدباء الشباب، وحرمتهم من النشر لسنوات عديدة. ولم تبدأ المجلات الأدبية المركزية ودور النشر بالاهتمام بإبداعاتهم إلا منذ أوائل التسعينات من القرن العشرين.

زر الذهاب إلى الأعلى