الإنتاج الفني والسردي

الشدياق عن الاختلافات في الموسيقى بين الافرنج والعرب

يتحدث (أحمد الشدياق) (1804-1887) المثقف التنويري والصحفي اللبناني، في كتابه (الواسطة في معرفة أحوال مالطة) يتحدث عن الموسيقى في باب منفصل فيقول:

إن الإفرنج قد جعلوا ترجيع الصوت وإيقاعه داخلاً تحت حس المشاهدة، فدلوا عليه بنقوش ورسوم معلومة كما دلت الحروف على المعاني، فلم يكن تحصيله متوقفاً على ذاكرة وعظيم معاناة كما في السابق، فمن كان منهم عارفاً بخارج النغم ورأى تلك العلامات، أمكن له أن يخرج عليها أي صوت كان من دون أن تتقدم له سابقة فيه، وإذا اجتمع منهم عشرون رجلاً وكانت أمامهم تلك النقوش رأيت منهم متابعة واحدة، ويُرَد على هذا التأويل أنه لو كانت الموسيقى فضلة من المنطق لكانت واحدة الاستعمال، كما أن المنطق واحد الضوابط، على أن الناس متغايرون فيها تغاير شديداً، فإن ألحان العرب لاتطرب غيرهم، بل هولاء-أيضاً- مختلفون، فإن أهل مصر لايطربون لألحان الشام، وألحان الإفرنج لا تطرب أحداً من هؤلاء.

وقد شرح هذا المعنى (ابن زيدون) في رسالة (لابن نباتة) تقول: “النغم فضل بقي من المنطق، لم يقدر اللسان على إخراجه فاستخرجته الطبيعة بالألحان على الترجيع لا على التقطيع، فلمّا ظهر عَشِقَته النفس وحَنَّ إليه القلب“.

فالمراد بالترجيع لا التقطيع هو أن يكون الصوت ممتداً ينحى به لا متقطعاً كأصوات الهجاء، فإذا كان فنّ الموسيقى-والحالة هذه- فضلة من المنطق على هذا التأويل لزم أن نقول إن لكل جيل من الناس محاسن في الغناء مقصورة عليهم فقط، فإن لكل لغة محاسن ولا توجد في غيرها، والواقع بخلاف ذلك فإن لغتي الصين والهند- مثلاً- تستميلان على محسنات لاتوجد في غيرهما، إلا أن أنغامهم خالية من ذلك، أما ألحان الإفرنج فلا يطرب لها إلا من ألِفَها.

ثم ذكر 4 إختلافات في الموسيقى بين الإفرنج والعرب فيقول :

أولاً: أن الإفرنج ليس لهم صوت مطلق للإنشاد من دون تقييد بتلك النقوش، فلو اقترحت على أحدهم مثلاً أن يغني بيتين ارتجالاً، كما يفعل عندنا في القصائد والمواليات لما قدر، وهو غريب بالنسبة إلى براعتهم  في هذا الفن؛ لأن الإنشاد على هذا النوع طبيعي، وقد كان عندهم من قبل أن تكون النقوش والعلامات، فياليت شعري. كيف كانوا ينشدون قبل أن ينبغ (غيودو الأريتسو) في إيطاليا؟

ثانياً: أن غناء الافرنج هو مثل قرأتهم، في أنه لا يخلو عن حماسة وتهييج، فضلاً عن التشويق والتطريب والترقيص، فغناء الحماسة والتهييج هو الذي يكون به ذكر القتال، وأخذ الثأر، والذب عن الحقيقة، فإذا سمعه الجبان- لاسيما من الآلات العسكرية- هانت عليه روحه، أما الغناء العربي فكله تشويق وغرامي، وأجدر به أن يكون جامعاً لمعنيي الطرب، وهو خفة تصيب الإنسان من فرح أو حزن، فإذا سمع أحد منا صوتاً أو آلة شغف قلبه الغرام، فبدت صبابته، وحنت نفسه كما يحن الإلف إلى إلفه حتي يصير عنده آخر الفرح ترحاً، ولا غرو إن صعد منه الزفرات وأذرف العبرات، فإن الشرور إذا تفاقم أمره وتكامل بدره دب فيه محاق الشجن، واختلط به الحزن حتى يستغرق صاحبه في بحر من الوجد، ويشتغل بنار من الهيام، وعلى ذلك ورد قولهم: “طربه وشجاه من الأضداد”.

ثالثاً: فهو أن الإفرنج لا قرار لأصواتهم إلا على الرصد. نعم، إن جميع الأنغام يوجد لها مقامات في آلاتهم، بل توجد أنصافها وأرباعها إلا مقامين منها، لا أنصاف لهما إلا أنهم لا يقرّون إلا على المقام الأول، وقد سمعت منهم الرهاوي، والبوسليك، والأصفهاني، أما غيرها فلم أسمعه قط، بل قد سمعت منهم بعض أغانٍ من أغانينا أوقعوها على آلتهم، فكانت كلها رصداً وقد- والله- طالما وقفت السمع على أن أسمع منهم أنغامنا فخبت، حتى اعترتني الحيرة، فإني – من جهة- كنت أرى آلاتهم بديعة الصنعة على كثرتها، وأفكر في أن العلوم انتهت إليهم، والفنون قَصُرت عليهم، وإن عندهم في هذا الفن بدائع كثيرة فاتتنا على ماسبق ذكره، ومن جهة أخرى أرى أن براعتهم كلها إنما هي من مقام الرصد، نعم إن هذا المقام هو أول المقامات، وأنه يُغَنّي منه في مصر وتونس أكثر مما يُغَنّى من غيره، إلا أن فضل الصبا والبيات والحجازي لا ينكر أيضاً، ثم أعود فأقول: لا غرو أن يكون قد فاتهم أيضاً بدائع في هذا الفن كما فاتهم في غيره أشياء أخرى، وذلك ككثرة بحور العروض عندنا، وكبعض محسنات الكلام، كالسجع في الكلام المنثور؛ إذ ليس عندهم سوى المنظوم، وهو -في الإنشاء- كالصوت المطلق في الغناء، فإن السجع مقدم على النظم، وكعجزهم أيضاً عن لفظ الأحرف الحلقية.

وقد سألت مرة أحد أهل الفن منهم فقلت: إن المقامات موجودة عندكم وعندنا على حد سويّ، وكذا أنصافها، فبقي الكلام على استعمالها، فإنا لو استعملنا -مثلا- نصفاً من الأنصاف مع مقامه، وأنتم تستعملونه مع مقام آخر، بحيث يظهر لنا أنه خروج، فمن أين تعلم الحقيقة؟ فما كان منه إلا أن قال: إن هذا الفن قد وُضع عندهم على أصول هندسية لا يمكن خرمها، فلا يصح أن يستعمل مقام إلا مع مقام آخر، على أني كثيراً ماسمعت منهم خروجاً فاحشاً، على شَغَفي بألحانهم، وقد شاقني، يوماً- وصف المادحين إلى سماع قينة بلغ صيتها أنها غنَّت في مجلس قيصر الروس، فلمّا سمعتها طربت لرخامة صوتها وطول نَفَسها في الغناء، إلا أني سمعت منها خروجاً بحسب ماوصل إليه إدراكي، ولو تيقَّن أن آلحان الروم التي يرتّلون اليوم في كنائسهم هي كما كان يتغنى به في أيام الفلاسفة اليونانيين لكان ذلك دليلاً آخر على قصور ألحان الإفرنج، فإن أنغام الروم مقاربة لأنغامنا.

رابعاً: أن أكثر أصحاب الآلآت عندهم لا يحسنون إخراج أنصاف النغم وأرباعها، مالم تكن مرسومة لهم إلا أصحاب الكمنجة، فأما الناي ففيه خروق شتى غير السبعة، لكل اثنين منهما طباقة إذا سُدّ منها منخر جاش منخر، غير أن الصنعة في إحكام سدها واستعمالها تقارب صنعة تغيير نقل الأصابع عندنا وهذه الأنصاف والأرباع في النغم مثل الروم والإشمام في النحو.

ويقول أخيراً:

أن الإفرنج على كثرة ماعندهم من الآلآت والأدوات، فقد فاتهم العود على محاسنه، والناي من القصب، على الرغم من أن أكثر العلماء قرروا أن أصل الموسيقى مأخوذ عن صوت الريح في القصب.

فاطمة باسلامة

خريجة جامعة دار الحكمة قسم القانون، مدونة، مهتمة بالأدب والفنون والموسيقى وكل ماله علاقة بالجمال.
زر الذهاب إلى الأعلى