فقه الحياة

المقياس لعيش الحياة الكريمة: هنري ميلر عن تعمره في شيخوخته، ومخاطر نجاحه، وسر بقاء شبابه في قلبه

إن كنت لا تزال قادراً على الحب وكنت قادراً على الغفران والنسيان وإن استطعت أن تكبر من دون أن تصبح فجاً، عابساً، متشائماً يشعر بالمرارة، فقد قطعت نصف طريق حياتك.
عن كيفية توجيه نفسه لأية لحظة، كتب (هنري ميلر) البالغ  ٤٨ عاماً عن إنعكاس التفكير في فن الحياة عام ١٩٣٩م حيث قال أن “التوجيه هو ما يعتمد فشل أو ثمرة اللحظة”. وخلال حياته الطويلة، سعى (ميلر) دون توقف لتوجيه نفسه نحو أقصى ثمرة ممكنة، من خلال انضباطه الإبداعي إلى التأملات الفلسفية في اندفاعه عدم توقيره الغزير.
بعد مرور أكثر من ثلاثة عقود وبعد وقت قصير من عيد ميلاده الثمانين، كتب (ميلر) مقال جميل في موضوع الشيخوخة والمفتاح من أجل عيش حياة متكاملة. تم نشره في عام ١٩٧٢م في كتيب صغير فائق ومحدود الطبعة يحمل عنوان (منعطف الثمانين) “On Turning Eighty”، إلى جانب مقالتين أُخرتين تم طبع ٢٠٠ نسخة منها فقط، مرقمة وموقعة من قبل الكاتب.
بدأ (ميلر) في كتابه بالنظر في المقياس الحقيقي للشباب:
إن كنت قد بلغت الثمانين وأنت لست مشلول أو معتل، فإنك لازلت بصحة جيدة، وتستمتع برياضة المشي، وبوجبتك، إن كنت تستطيع النوم من دون تناول حبوب منومة، إن كانت الطيور والأزهار والبحر والجبال ما زالت تُلهمك كما كانت فأنت شخص محظوظ ومن الأفضل لك أن تسجد شاكراً لطف الرب ورعايته الدائمة. أما إن كنت شاباً بحساب السنين، ومخرباً في عمق روحك وكنت على وشك أن تصبح إنسان آلي، فلعل أفضل شيء تفعله – بعد أن تأخذ نفساً عميقاً، بالطبع – هو أن تقول لروحك الداخلية: “اللعنة يا صديقي، أنت لا تملكني!“… إن كنت لا تزال قادراً على الحب وقادراً على مسامحة والديك اللذين ارتكبا جريمة إحضارك إلى هذا العالم، إن كنت قنوعاً بمكانك، وباستقبال أيامك كيفما جاء بها القدر، إن كنت قادراً على الغفران والنسيان، إن استطعت أن تكبر من دون أن تصبح فجاً، عابساً، متشائماً يشعر بالمرارة، فقد قطعت نصف طريق حياتك.
وأضاف لاحقاً:
أصدقائي ومعارفي الذين من عمري أو ما يقاربه قلة جداً، وعلى الرغم من أنني عادةً سيء في التعامل مع كبار السن لكن لدي إحترام وتقدير عظيمين لرجلين مُسنين جداً ولا يزالان محافظين على إبداعية شبابهم وأعني هنا عازف التشيلو الكاتالوني (بابلو كاسالس) والرسام (بابلو بيكاسو) وهما تخطيا التسعين من أعمارهم الآن، ووصولهم لهذه الأعمار يضع أعمار الشباب في حافة العار. فأولئك الذين هم بالبالية حقاً أو الجثث الحية إذا جاز التعبير وهم في منتصف العمر تقطعت بهم السبل في قبورهم للاختيار ما بينها وما بين تصور أن الوضع الراهن لن يدوم إلى الأبد وذلك لن يتم إلا بالشعور بالخوف من أن قنبلة قد تهدهم في مساكنهم وتنهي حياتهم.
ويعتبر (ميلر) الجانب السلبي للنجاح هو النظر لها بشكل دينيوي كما في نظرية (ثورو) وليس النظرة لها بشكل عام:
إن كانت لديك وظيفة ناجحة ربما كتلك التي كانت لدي فمن المرجح أن السنين المقبلة لن تكون أجمل سنين حياتك، إلا إن كنت قد تعلمت أن تشرب من ماء البحر، النجاح من وجهة نظر دنيوية هو وباء للكاتب الذي ما زال يملك شيئاً ليقوله في هذا الوقت من العمر حين يكون من المفترض أن يستمتع بوقت فراغه قليلاً، سيجد نفسه منشغلاً أكثر من أي وقت مضى. يصبح الآن ضحية للمعجبين والمهنئين وكل هؤلاء الذين يسعون لاستغلال اسمه، وسيجد أنه يعيش نوع مختلف من الصراعات التي عليه وحده أن يدفع ثمنها، مشكلته الآن هي في كيفية البقاء حراً وفي ممارسة الأشياء كما يريد هو لا كما يريد الآخرون.
يذهب إلى التفكير في كيفية تأثير النجاح في جوهر الإنسان:
شيء واحد أراه يتضح أمامي يوماً بعد يوم: شخصيات الناس الأصلية لا تتغير مع الأيام، النجاح يطور شخصياتهم، نعم، لكنه يُبرز أخطاءهم وعيوبهم أيضاً، التلاميذ الأذكياء في المدرسة لا يبدون بالذكاء نفسه الذي كانوا عليه حين يخرجون لمواجهة العالم، الفتيان الذين كُنت تزدريهم وتمقتهم في المدرسة، ستكرههم أكثر حين يصبحون مُمولين ورجال دولة وضباط بخمسة نجوم. الحياة تعلمنا القليل من الدروس، لكنها لا تعلمنا كيف نكبر.
المفارقة هنا أن المؤلفة (أنياز نين) – عشيقة (ميلر) في مرة وصديقة عمره – وافقت بجمال على عكس كلامه تماما، فكرة أن شخصياتنا هي مجرد سوائل بشكل أساسي في كل مرة نتقدم بها بالعمر، وهو أمر أيده علماء النفس منذ ذلك الحين.
هنا (ميلر) يعود إلى الشباب كنوع من مرآة الرؤية الخلفية لرحلته في مقطع واحد:
ستشاهد أطفالك أو أحفادك وهم يرتكبون الأخطاء السخيفة نفسها، الأخطاء التي تدمي القلب، تلك التي ارتكبتها حين كنت في مثل عمرهم. ولن يكون بوسعك أن تقول شيئاً أو أن تفعل شيئاً لمنعها من الحدوث. ومن خلال مشاهدتهم فقط ، سيكون بإمكانك أن تفهم تدريجياً الحماقات التي كنت عليها يوماً ما، والتي ما زلت تمارسها – ربما – إلى الآن.
ومثل (جورج إليوت) الذي لاحظ أن مؤثر مسار السعادة يجب أن يكون السائد في مدار حياة الإنسان، (ميلر) هنا يمجد التفوق النفسي العاطفي ويرى وجوبه كأساسي في العمر:
في الثمانين أعتقد أنني أصبحت شخصاً مرحاً أكثر مما كنت في العشرين أو الثلاثين، بل ولا أرغب في أن أعود إلى ما قبل العشرين، قد يكون الشباب بهياً لكنه مؤلم أيضاً، كنتُ ملعوناً أو محظوظاً بفترة مراهقة طويلة جداً، ووصلت إلى ما يشبه النضج في مرحلة ما من الثلاثين وفي الأربعين فقط بدأت أشعر حقاً أنني أصبحت شاباً، وقتها فقط كنت مستعداً لذلك. كان بيكاسو يقول: “في الستين يشعر المرء بالشباب، حين يكون الوقت قد فات جداً“. في هذا العمر، فقدتُ الكثير من أوهامي لكنني لحسن الحظ لم أفقد حماستي، ولا استمتاعي بالحياة، ولا فضولي الجامح.
وهنا تكمن مركزية (ميلر) الروحية – قوة الحياة التي أشعلت محركه الداخلي الدائم الذي يبقيه في شبابه:
لعله الفضول – لمعرفة أي شيء وكل شيء – هو ما صنع مني كاتباً. الفضول الذي لم يتخلى عني أبداً،  إلى جانب هذه الخصلة أدين بالفضل لخصلة أخرى أضعها فوق كل اعتبار وهي حاسة الدهشة، لا تهمني قيود حياتي كلها لكنني لا أستطيع أن أتخيل أن تتركني الحياة فارغاً من الدهشة. أسمّيها إلى حد ما: ديني. أنا لا أتساءل أبداً عن هذا الوجود الذي نسبح فيه، كيف جاء وخُلق، أنا أستمتع به وأُقدره فحسب.
وبعد ذلك بعامين، (ميلر) آتى للتعبير هنا بوضوح أكثر من رائع في التفكير في مرح الحياة، ولكنه يتناقض مع تأكيد (هنري جيمس) على أن الحفاظ على الجدية هو ترياق الحياة:
 إن أحد أكبر الاختلافات بين الحكيم الحقيقي والواعظ هو: المرح. حين يضحك الحكيم، يضحك من قلبه، وحين يضحك الواعظ – إن حدث ذلك – فهي ضحكة وجه لا أكثر.
وبنفس القدر من الأهمية كما يقول (ميلر) أن التصدي للإكراه في الإنسان على البر أمر ذاتي. (مالكولم جلادويل) آتى بعد ما يقارب من نصف قرن في الدعوة إلى أهمية تغيير عقل واحد بشكل منتظم ، (ميلر) يكتب:
 كلما تقدم بي العمر، أفكاري المثالية – التي طالما أنكرتها – تتغير ، أفكاري المثالية في أن أكون متحرراً من كل المثاليات ، متحرراً من المبادئ، متحرراً من المذاهب والآيديولوجيات، أريد أن أمضي في محيط الحياة كما تمضي السمكة في البحر. لم أعد أبذل جهدي لأقنع الناس بوجهة نظري عن الأشياء ولا لمعالجتها. لم أعد أيضاً أشعر بالفوقية لأنهم يفتقدون الذكاء، كما كان يبدو لي.
(ميلر) هنا يذهب إلى النظر في سبل الشر التي نحن غالباً لا نتصرف فيها من البر الذاتي المطلوب:
يمكننا أن نحارب الشر لكننا أمام الغباء لا نستطيع فعل شيء. لقد تقبلت الحقيقة كما هي ، ومهما كانت قاسية: البشر يميلون إلى التصرف بطريقة تجعل الحيوانات تشعر بالخجل، المثير للسخرية وللألم معاً هو أننا غالباً نتصرف منطلقين – بشكل منحط – مما نسميه الدوافع العليا، الحيوان لا يبرر قتل ضحيته، أما الحيوان البشري فيذكر إسم الرب حين يذبح أخاه الإنسان، ينسى أن الرب لا يقف على جانبه، بل يقف إلى جانبه.
وعلى الرغم من محاولة معالجة هذه الميول البشرية التي يرثى لها لا يزال (ميلر) متفائل في القلب، ويُخلص بالعودة إلى الفرح حيوياً لما يرى لها جذور قوية في حياته:
لطالما كان شعاري: “أمرح دائمًا وتألق“. ولعل هذا هو السبب الذي لا يجعلني أملّ من تكرار مقولة رابليه: “بقدر آلامك ، أمنحك الفرح“. حين أنظر إلى الخلف لأرى حياتي، حياتي المليئة باللحظات التعيسة، أراها ضرباً من السخرية أكثر من كونها مأساة. إحدى هذه المشاهد الساخرة هو أنك حين تضحك بقوة تشعر أن قلبك يؤلمك ، أيةُ مأساة ساخرة يمكن أن تكون هذه ؟ الشخص الذي يأخذ حياته بجدية أكبر مما يلزم هو شخص مُنتهٍ لا محالة، الخطأ ليس في الحياة بحد ذاتها، فالحياة مجرد محيط نسبح فيه، وعلينا أن نتكيف معه أو نغرق إلى الأسفل ، لكن السؤال هو: هل بإمكاننا كبشر ألا نلوث مياه الحياة، وألا نحطّم الروح التي تسكن داخلنا؟
إن أصعب ما يمكن أن يواجهه المبدع هو أن يتوقف عن محاولة تغيير العالم إلى ما يحب، وأن يتقبّل الناس من حوله كما هم تماماً، أجيدين كانوا أم سيئين أم لا مبالين بما يحدث من حولهم في العالم.
زر الذهاب إلى الأعلى