الحضارات البشرية والتاريخ

تأثير الحضارة العربية على أوروبا الحديثة

"إن العرب قد نقلوا كنوز القدامى الى بلاد الغرب"

(زيغريد هونكه) مستشرقة ألمانية، أحبت العرب، صرفت وقتها كله باذلة الجهد للدفاع عن قضاياهم والوقوف الى جانبهم. هي زوجة الدكتور (شولتزا)، المستشرق الألماني الكبير، الذي اشتهر بصداقته للعرب وتعمقه في دراسة آدابهم والإطلاع على آثارهم ومآثرهم. وقد عاشت معه، عامين اثنين في مراكش، كما قامت بعدة زيارات طويلة للبلدان العربية.

تناولت (هونكه) في اطروحتها لنيل درجة الدكتوراة من جامعة برلين، أثر الأدب العربي في الآداب الأوروبية، وفي عام ١٩٥٥م، صدر مؤلفها الأول : “الرجل والمرأة”، أكدت فيه -كما فعلت في كتبها التي تتالت- فضل العرب على الحضارة الغربية خاصة، والحضارة الإنسانية عامة.

في مقدمة كتاب (شمس العرب تسطع على الغرب) والذي يعد ثمرة سنين طويلة من الدراسة العميقة تحدثت فيه بموضوعية وبإسهاب غلب عليه طابع الحب والمودة والتقدير لهذه الحضارة الغائبة.

استهلت في كتابها بهذا المدخل:

لم يعد العالم مقتصرا على أوروبا وحدها، كما وأن التاريخ الأوروبي لم يعد في الوقت الحاضر التاريخ العالمي وحده، ذلك أن شعوب قارات أخرى قد اعتلت المسرح العالمي. ففي الوقت الذي كانت تسعى فيه أطراف الأرض جميعها الى رسم خطوط مسرحية التاريخ العالمي، دون أي وشيجة سابقة تربط بينها، تعود بنا الذكرى دائما على الدوام إلى “خارطتنا للعالم” في القرون الوسطى التي تصور أوروبا دائرة يلفها البحر العالمي، وتتوسطها بلاد الاغريق من جهة، وروما من جهة ثانية فردوسًا لها ومركز إشعاع.

أما أن تكون ثمة شعوب أخرى، وأطراف من الأرض لها شأن عظيم في التاريخ، بل وتاريخنا الغربي خاصة، فذلك أمر لم يعد بالإمكان تجاهله في حاضر قد طاول النجوم عظمة. لأجل ذلك يخيٌل إليٌ أن الوقت قد حان للتحدث عن شعب قد أثر بقوة على مجرى الأحداث العالمية، ويدين له الغرب، كما تدين له الانسانية كافة بالشيء الكثير. وعلى الرغم من ذلك فإن من يتصفح مئة كتاب تاريخي، لا يجد اسما لذلك الشعب في ثمانية وتسعين منها.

كما أنها تطرقت لتاريخ الحضارة في الكتب والاوساط الغربية، فقالت:

حتى هذا اليوم؛ فإن تاريخ العالم، بل وتاريخ الآداب والفنون والعلوم لا يبدأ -بالنسبة الى الانسان الغربي وتلميذ المدرسة  إلا بمصر القديمة وبابل بدءا خاطفا وسريعا، ثم يتوسع ويتشعب ببلاد الإغريق وروما، مارا مرورا عابرا ببيزنطة، ومتنقلا الى القرون الوسطى المسيحية، لينتهي منها آخر الأمر، بالعصور الحديثة.
ولم يكن هناك أحد ليمنح اوروبا ما قبل القرون الوسطى أي اهتمام، أو ليمنح الأحداث التي جرت في العالم خلال تلك العصور أية أهمية أيضا. وأما أن يكون العرب في جوار قريب لها، وأن يكون هذا الشعب في أنحاء الدنيا في غضون سبعمائة وخمسين عاما حاملا مشعل الثقافة ردحا جاوز عصر الأغريق الذهبي بضعفيه أكثر من أي شعب آخر.. فهذا أمر من يعلم به؟ أو من يتحدث عنه؟

وعن عدم اعتراف الغرب اعترافا كاملا بتأثير الحضارة العربية، قالت:

في سياق الحديث عن الإغريق، اعترف الاوروبيون بدور العرب في التاريخ حين قالوا: “إن العرب قد نقلوا كنوز القدامى الى بلاد الغرب”.
إن هذه العبارة الوحيدة التي يحاول فيها الكثيرون كذبا وادعاءً تقريظ ما قد أسدوه لأوروبا، تحدد للعرب، في الواقع، دور ساعي البريد فقط، فتقلل من قدرهم حين تطمس الكثير من الحقائق وراء حجب النسيان.
ليس من المهم أن نوسع آفاقنا التاريخية فحسب، بل إن من الأمر الهام أيضاً في زمننا هذا أن نبحث عن صديق الغد في عدو الأمس، وأن ننطلق من قيود المعتقدات الدينية السابقة لنطل من وراء العقائد، ومن خلال التسامح والانسانية السامية على البشر أجمعين، وأن تأخذ العدالة مجراها وترد حقوق شعب سبق أن حرمه التعصب الديني كل تقدير موضوعي حق، وحط من قدر أعماله الفائقة، وحجب النور عما قدمه لحضارتنا، وبل غلّه بصمت الموت، أما زال يعتبر العمل عملاً مبكرا، ولم يحن وقت القيام به بعد؟

واصلت الكاتبة دعوتها للغرب بالتخلي عن النفور والاستنكار من الاعتراف بالتراث العربي، وان لا بد من الكف عن التعصب الديني وعن ما تسميه هي “نظرة القرون الوسطى”:

إن علاقة الغرب بالعرب منذ ظهور الإسلام حتى هذا اليوم لهي مثال تقليدي عن مدى تأثير المشاعر والعواطف في كتابات التاريخ، وكان هذا وضعا له مبرراته في عصر اعتبر فيه تأثير معتنقي دين آخر أمرا غير مرغوب فيه لخطره الوهمي. إن نظرة القرون الوسطى هذه لم تمت بعد، اذ أنه ما زالت، حتى يومنا هذا جماعة محدودة الآفاق بعيدة عن التسامح الديني تبني الحواجز في وجه النور، ولو بطريقة لا شعورية نابعة عن تصرف غائص متشعب الجذور في أنفسهم إزاء أناس جعلت الدعاوة منهم أبالس مجرمين بشعين، وعبدة أوثان وفنانين مزورين.
وقد نشب في الآونة الأخيرة خلاف محتدم الوطيس حول سؤال واحد يتعلق بمصدر ”أغاني الحب”،
ظهر من خلاله شدة النفور من الاعتراف بتراث عربي، ومدى الانفعال الذاتي الذي يثيره ذاك النفور في قرننا العشريني.
ولم يكن لهذا الخلاف أن يحصل لولا أن الآفاق قد بدأت في الانقشاع شيئا فشيئا أو لو أن حكماً عادلا قد اتخذ مجراه. ولعل مصيرنا سيتعلق بمصير العالم العربي الذي سبق له أن غيّر يوما ما صورة عالمنا بشكل جذري.
أما آن لنا أخيراً أن نسعى باحثين وراء ما قد يجمعنا، متخطين ما سبق أن فرّقنا؟!

ثم وضحت موضوع الكتاب الرئيسي وأجابت على سؤال : هل الحضارة العربية هي ذاتها الحضارة الإسلامية؟ وما الذي تفرق به الحضارة العربية؟

إن هذا الكتاب يتناول “العرب” و “الحضارة العربية” ولا أقول “الحضارة الاسلامية”، ذلك أن كثيراً من المسيحيين واليهود والمزديين والصابئة قد حملوا هم مشاعلها أيضاً. وليس هذا فحسب، بل إن الكثير من تحقيقاتها العظيمة الشأن كان مبعثها احتجاجاً على قواعد الإسلام القويمة.
بل أضف إلى ذلك أن من صفات هذا العالم الروحي الخاصة، كانت موجودة في صفات العرب قبل الاسلام.
هذا الكتاب يتحدث عن “العرب” و”الحضارة العربية” بالرغم من أن الكثيرين من بناتها كانوا لا ينتمون إلى الشعب الذي عرّفه المؤرخ القديم (هيرودوت) باسم (عربيو Arabioi) بل كان منهم أيضاً فرس وهنود وسريان ومصريون وبربر وقوط غربيون ساهموا جميعاً في رسم معالم تلك الحضارة، بدليل أن كل الشعوب التي حكمها العرب اتحدت بفضل اللغة العربية والدين الاسلامي، وذابت بتأثير قوة الشخصية العربية من ناحية، وتأثير الروح العربي الفذ من ناحية أخرى، في وحدة ثقافية ذات تماسك عظيم.

وهنا ردت على من قال بـ “فارسية” بعض العلماء الذين أسهموا إسهاماً جلياً في قيام هذه الحضارة:

إن هذا الكتاب يتحدث عن الثقافة العربية، كما يتحدث المرء عادة عن الثقافة الامريكية. وكما يحاول بعضهم أن يجعل (الرازي) أو (ابن سينا) الفارسي الأصل، فارسي الروح، وهما من أفراد العائلات التي عاشت منذ أحقاب بين العرب، يحاول بعضهم أن يجعل -بالقدر نفسه- من رئيس الجمهورية الامريكية السابق (دوايت ايزنهاور)، ألمانياً!

وفي الختام:

إن هذا الكتاب يرغب في أن يفي العرب ديناً استحق منذ زمن بعيد. ولئن تناول الحديث هنا عدداً كبيراً -وإن يكن غير كامل- من عوامل التأثير المباشرة وغير المباشرة في حضارة العرب، فهذا لا يعني البتة أن مصدر كل خير أتى من هناك فحسب، وهذا لا يعني كذلك أننا قـد تجاهلنا وقللنا من شأن وجوه التأثير الهامة المختلفة التي كانت للإغريق والرومان واليهود على حياتنا.

كذلك، فإننا لن ننسى مطلقاً تطور الشعوب الجرمانية والرومانية وفعاليتها الحضارية، هذه الشعوب التي أخذت عن الآخرين ما أخذت لتحقق ذاتها.

بساط الحضارة بساط نسجته وتنسجه أيدٍ كثيرة، وكلها تهبه طاقتها، وكلها تستحق الثناء والتقدير.


بقلم: عبدالرحمن المري
مراجعة: أحلام العمري
تحرير: أحمد بادغيش
زر الذهاب إلى الأعلى