الإنتاج الفني والسردي

(تشايكوفسكي) ثُلاثيّ بيانو: إحياءً لِذكرى فنان عَظِيم

:إن عليّ أن أبذل جهدًا واعيًا لملاءمة أفكاري الموسيقية مع شكل جديد غير معتاد"

ثُلاثيات البيانو

يتكون ثُلاثيّ البيانو، من حيث المبدأ، من البيانو مع آلتين أُخريين. ومن المعروف، أن لكل آلةٍ مُوسيقيّةٍ لون صوتي (timbre) خاص بها. وهنا تظهر عبقرية المؤلف ومعرفته بنظرية الموسيقى والتأليف – بأن يخرج الامتزاج اللّحني بين الآلات التي تعزف معًا بطريقة متناسقة وواضحة. 

هذا النوع من موسيقى الحجرة كان شائعًا في أوروبا الغربية خلال القرن الثامن عشر. ولقدّ تطوّر على يد كبار المؤلفين مثل (هايدن) و(موتسارت). بعدهم أَضاءَ (بيتهوفن) و(شوبرت) هذا النوع بأعمالهم خلال نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر. حيث إضافة كل مؤلف أسلوبه الخاص في كتابة وتوزيع الأدوار للآلات.

في روسيا بدأ الأمر – كغيرها من ألوان الموسيقى – مع المؤلف الروسيّ (ميخائيل غلينكا) عندما قام بكتابة ثُلاثيّ بيانو “للبيانو مع الكلارينيت والباسون” عام ١٨٣٢م. كان العمل مُكوّن من أربع حركات، وسمي “العاطفي Pathétique” لأن (غلينكا) عكس من خلاله الحزن الذي كان يعتريه في وقت كتابته. 


ثُلاثيّ (تشايكوفسكي)

يمتلك (تشايكوفسكي) روحًا موهوبَة عظيمة تمتاز بالغنائية والتعبير العاطفيِّ الشديد، مع إحساس مفرط. هو مزيج من إنسان أوروبي كلاسيكي مع شخصية روسية أصيلة. إن حياته الصعبة المرهقة أثرت كثيرًا في موسيقاه؛ إذ يبدو أن الموسيقى التي يكتبها إنَّما تأتي من داخله – فحَوَّلَ معاناته إلى مصدر قوة وجمال وعكسها على أعماله. [١] 

كل هذه السمات تميز أعماله الصغيرة – ولكن المهمة – في موسيقى الحجرة، منها: ثلاث أعمال وضعت كرباعيات للوتريات، سُداسيّ وتريات “ذكريات من فلورنسا” [١٨٩٠م] وثُلاثيّ بيانو مع الكمان والتشيلّو [١٨٨٢م].

جاءت فكرة كتابة ثُلاثيّ بيانو لـ(تشايكوفسكي) من راعيته وعاشقة الموسيقى، (ناديغدا فون ميك)، والتي كانت قد استعانت بالمؤلف الشاب، (كلود ديبوسي)، معلمًا ومؤلفًا لديها [يوليو ١٨٨٠م]، وكانت مسرورة بثُلاثيّ بيانو كان قد كَتَبَهُ (ديبوسي) في تلك الفترة – ولهذا طرحت الفكرة على تشايكوفسكي، وحثته على كتابة واحد. [١]  

رد (تشايكوفسكي) على هذا الاقتراح في ٥ نوفمبر ١٨٨٠م:

تسألينني لمَ لا أكتب ثلاثيّ؟ أعذريني عزيزتي، أنها تفوق قدراتي. والصعوبة هي أن تركيبة جهازي السمعي تجعل من المستحيل عليّ أن أتحمل بيانو يعزف برفقة كمان منفرد أو تشيلّو منفرد. يبدو لي أن هذه الأصوات ينفِّر أحدها الآخر.

إن الإصغاء إلى ثُلاثيّ أو سوناتا مع كمان أو تشيلّو هو محض عذاب لي. لا أدعي إيضاح هذه الحقيقة لكنني أؤكد عليها. إن البيانو مع الأوركسترا أمر مختلف تمامًا؛ مرة أخرى ليس من مزج لحني، وفي الحقيقة إنّ البيانو لا يمتلك قدرة على الامتزاج مع أي شيء لأن صوته يمتلك خاصية مرنة تطغى – إن جاز التعبير – على أي صوت آخر.

الكمان، والتشيلّو والبيانو – فيا له من تجميع غير طبيعي لثلاث فرديات! إن الألحان الغنائية للكمان والتشيلّو، بألوانها الصوتية الرائعة الدافئة تملك خاصية تخصها حين توضع إلى جانب ملك الآلات -البيانو-، وسيحاول الأخير عبثًا أن يظهر بأنه هو الآخر بإمكانه أن يغني كمنافسيه. من وجه نظري لا يمكن استخدام البيانو إلا في ثلاث حالات: 1- الوحدة؛ 2- في صراع مع الأوركسترا؛ 3- كمرافقة، أعني، كخلفية، فالثُلاثي، بالطبع، ينطوي على حقوق متساوية وتجانس وأين يمكن إيجاد ذلك بين الآلات الوترية المنفرد من جانب والبيانو من جانب آخر؟ لن نجده، والسبب: هناك دومًا شيء اصطناعي في ثُلاثيّ البيانو وكل من الآلات الثلاث يعزف باستمرار شيئًا ليس طبيعيًا له بل فَرض عليه من المؤلف الذي غالبًا ما يواجه مصاعب في توزيع الأدوار وفي تنظيم العناصر المقومة بفكرته الموسيقية.

أنا شديد الإعجاب بالفن والمهارة المعجزة اللذين بهما قهر مؤلفون من أمثال (بيتهوفن) و(شومان) و(مندلسون) هذه المشاكل؛ أعرف أن هنالك الكثير من الثلاثيات التي تمتلك خصيصة عالية موسيقيًا، لكني لا أحب الثُلاثيّ كشكل ولهذا السبب لست قادرًا على خلق شعور حقيقي للكتابة لهذه التركيبة من الأدوات، وحتى التفكير بصوت الثُلاثيّ هو مصدر إزعاج كبير لي. [١]

يرى البعض أن اعتراضه على كتابة ثُلاثيّ بيانو هو أمر غير مفهوم؛ وبسبب أن كونشيرتو البيانو الثاني، الذي كان قد انتهى من كتابته قبل عدة أشهر فقط من الرسالة، وبالتحديد أبريل ١٨٨٠م، كانت الحركة الثانية منهُ تحتوي على ثُلاثيّ بيانو بديع [٢]. تم تَكْريس كونشرتو البيانو الثاني لـ(نيكولاي روبنشتاين). وبعد أربعة أشهر فقط من رسالة (تشايكوفسكي) إلى السيدة (فون ميك) – وقبل العرض الأول للكونشيرتو – توفي (نيكولاي روبنشتاين). 

إنَّ وفاة روبنشتاين المفاجئة في ٢٣ مارس ١٨٨١م في باريس عن عُمر يناهز ٤٥ عامًا، خَلّفت صدمةً عميقةً عند عائلته وأصدقائه؛ خاصةً (تشايكوفسكي)، فإنَّ خسارته لمعلَّمه ومُرشِده وصديقه تركتهُ مَفجُوعًا.  (نيكولاي غريغوريّفتش روبنشتاين) الذي ولد في ١٤ يونيو ١٨٣٥م، هو واحد من أهم شخصيات الموسيقى الروسية خلال القرن التاسع عشر. عازف بيانو محترف وقائد أوركسترا ماهر. قضى حياته يعمل كمدير لكُونسِرفاتوار موسكو الذي انشأه عام ١٨٦٠م (فرع موسكو للجمعية الموسيقيّة الروسيّة). كَتَبَ (نيكولاي) أعمال موسيقية قليلة، حيث قال مرة: 

إن اخوه (أنطون روبنشتاين) قدْ كتبَ مُوسيقى تكفي لثلاثةِ أشخاصٍ

أَثَرَ (نيكولاي روبنشتاين) أيّما تأثير في تطوّر ونضج (تشايكوفسكي)؛ الشخصي والموسيقي. بعد تخرّجِ (تشايكوفسكي) من كُونسِرفاتوار سانت بطرسبرغ عام ١٨٦٥م، وظَّفهُ (روبنشتاين) أستاذاً لنظريَّة المُوسيقى في كُونسِرفاتوار موسكو، بتوصية من (أنطون روبنشتاين). كان داعمًا للموسيقى الروسية المعاصرة، وشجع (تشايكوفسكي) على الاستمرار في التأليف، وأعطاه فرصة لعرض أعماله -خاصة المبكرة منها- التي كان يقود (روبنشتاين) عروضها الأولى بنفسه. 

كرس (تشايكوفسكي) ستة من أعماله لـ(روبنشتاين) منها: السمفونية الأولى وكونشيرتو البيانو الثاني. أثناء وجوده في روما في ديسمبر ١٨٨١م، في حالة حزن وإحباط، قرر (تشايكوفسكي) الرجوع إلى التَّأليف، بعد فترة انقطاع، والبدأ بكتابة ثُلاثيّ بيانو.

في رسالة إلى السيدة (فون ميك)، ٢٧ ديسمبر ١٨٨١م:

أتعرفين، يا عزيزتي، ما الذي بدأت كتابته؟ ستدهشين جدًا.

أتذكرين، أنك مرة نصحتني بكتابة ثُلاثيّ للبيانو مع الكمان والتشيلّو وأجبتك صراحة بأنني لا أحب تلك التركيبة من الآلات؟ والآن، فجأة، رغم كراهيتي، عزمت على محاولة العمل على هذا النوع من الموسيقى الذي لم أجربه من قبل. لقد كتبت الآن بداية الثُلاثيّ؛ ولا أعرف فيما إذا كنت سأنهيه أو سيكون عملًا ناجحًا، لكن أحب كثيرًا أن أصل إلى نهاية ناجحة لما كنت قدّ بدأت به.

إن الأمر الأساسي، وهو الوحيد حقًا، الذي صالحني مع تركيبة البيانو مع الآلتين الوتريتين؛ وهو ما أكرهه كثيرًا، هو فكرة أن بإمكاني منحك متعة بهذه الثُلاثيّ. إن عليّ أن أبذل جهدًا واعيًا لملاءمة أفكاري الموسيقية مع شكل جديد غير معتاد. لكنني أنوي الخروج ظافرًا من كل هذه الصعوبات، وفكرة أنك ستسرين تشجعني باستمرار وتلهمني.

لم يستغرق الأمر طويلًا، ورغم صعوبة العمل، فبعد شهر واحد فقط، انتهى من العمل بنسخته الأولية. 

رسالة إلى السيدة (فون ميك)، ٢٥ يناير ١٨٨٢م:

أنهيت الثُلاثيّ وبدأت العمل جاهدًا في نسخه. والآن إذ كتبت المقطوعة، يمكنني القول بدرجة معتدلة من الثقة: أنه ليس البتة عملاً سيئًا.

لكن أن آتي متاخرًا جدًا إلى نوع جديد من موسيقى الحجرة وكنت أكتب للأوركسترا طوال حياتي، فأنا متخوف تمامًا من أنني قد أخطأت في استخدام هذه التركيبة الغربية من الآلات في موسيقاي.

بوجيز القول: أخشى أن هذه قد تكون موسيقى سِمفونية كيّفتها كـ ثُلاثيّ، وليست مكتوبة مباشرة لهذه الآلات. إنني أبذل اهتمامًا عظيمًا في ألا يكون الأمر كذلك، لكني لا أعرف في ما إذا خرجت على هذا النحو.

في رسالة ١١ فبراير ١٨٨٢م، أبلغ (تشايكوفسكي) ناشره (بيوتر يورجنسن):

إنَّني إكرس هذا الثُلاثيّ إلى (نيكولاي روبنشتاين). ثمة خاصية رثائية، وتشيع فيه.

وكتب على الغلاف: “إحياءً لِذكرى فنان عَظِيم“.

نيكولاي روبنشتاين

هذا الثُلاثيّ هو مساهمة (تشايكوفسكي) الوحيدة في عالم الثلاثيات. يحتل مكانة فريدة بين أعمال موسيقى الحجرة، خلال قرن كثرت فيه أعمال الثُلاثيّ الكلاسيكية. بفضل محتواه الغني وألحانه الرائعة وشكله الجديد، فهو بصمة ملاصقة للمؤلف، وهو بالضبط ما نتوقع من (تشايكوفسكي) أن يؤلفه. 

لأسباب يبدو أنها لا علاقة لها بجودة العمل، وربما لها علاقة بطوله الضخم، لم يبرز هذا العمل كثيرًا كما برزت أعمال المؤلف الأخرى في موسيقى الحجرة. تحفة موسيقيّة روسية أصيلة بحق، ويمكن القول أنها من أهم أعمال (تشايكوفسكي) في موسيقى الحجرة. 

عرض العمل لأول مرة في عرض خاص في كُونسِرفاتوار موسكو في ٢٣ مارس ١٨٨٢م، أي في الذكرى السنوية الأولى لرحيل (نيكولاي روبنشتاين). أجريت عدَّة تعديلات وتنقيحات على أجزاء العمل في أبريل من ذلك العام. وأول عرض مفتوح أمام الجمهور كان في ٣٠ أكتوبر من نفس السنة في حفل إقامته الجمعية الموسيقيّة الروسية في موسكو، وكان العمل حينها بنسخته المنقحة. 

في عام ١٨٩٣م، تم اختياره مع الرُباعيّ الوتريّ الثالث، ليتم عزفها في حفلات موسيقيّة اقيمت في موسكو وسانت بطرسبرغ تخليدًا لذكرى المؤلف. [٣] 


حركات العمل:

الشيء المميز مع هذا الثُلاثيّ هو هيكليته الفريدة. عندما نفكر بأعمال الثُلاثيّ قبل (تشايكوفسكي) مثل أعمال (هايدن) و(موتسارت) وحتى المؤلّفين الرُّوس كـ(أنطون روبنشتاين)، كانت هذه المؤلفات في العادة، مكونة من أربع حركات؛ هنا اختار (تشايكوفسكي) أن يضع عمله في حركتين.

الحركة الأولى: قطعة رثائيّة Pezzo elegiaco 

يمكن القول بخصوص الحركة الأولى – التي وضعت في صيغة سوناتا – أنها رحلة مكثفة وكئيبة، تضم بين ثناياها أربع موضوعات تعرض في قسم العرض الطويل. إحساس بتطور ارتجاليّ طوال الوقت ونهاية بكودا مضطربة.

على الرغم من أن (تشايكوفسكي) تلقى تعليمه في نظريَّة المُوسيقى والتَّأليف على تقاليد أوروبا الغربية خلال فترة وجوده في كُونسِرفاتوار سانت بطرسبرغ، إلا أنه لا يزال يحافظ على شخصيته الروسيّة في كتابة الأَلحان. الموضوع الأول لهذه الحركة هو أفضل مثال على ذلك. [٤] 

تبدأ الحركة الأولى بمزاجٍ كئيبٍ، وفكرة لحنية (Moto theme) مؤلمة تنساب على التشيلّو بمصاحبة البيانو. (الموضوع الأول)، ثم تنتقل هذه الفكرة إلى الكمان، وسرعان ما ينظم إليه التشيلّو. يستمران مطولاً في هذه المحاورة حتى يسيطر البيانو ويعرض نسخته من اللّحن.

تتصاعد وتيرة العزف بشغفٍ وتَوَتّرٍ، حتى تبلغ ذروتها عند الوصول لتصريح بطوليّ والجريء بواسطة البيانو (الموضوع الثاني) – يرن مثل قرع أجراس الكنيسة الروسيّة الصاخب. [٥] 

عند “Allegro giusto سريع بانتظام” أن الاندِفاع المُضطَرِب الذي يشكل الجزء الرئيسي من هذه الحركة، هو واحد من أكثر معالجات (تشايكوفسكي) نشاطًا وامتلاءً بالشغف. تعود الأجواء الحالمة الهادئة (الموضوع الثالث) مع التشيلّو والكمان ثم ننتقل لمحاورة للآلات الثلاثة. بعدها (الموضوع الرابع) يُسمع بواسطة الكمان. 

إن تطوير كل هذا المواد يبرز أسلوب تشايكوفسكي بالاعتماد على التكرار المبالغ للأفكار اللّحنية [٦].  في التلخيص يتم تكرار مواد قسم العرض كلها. حيث يعاد الموضوع الأول ويقدم Adagio con duolo (ببطء شديد وبحزن) بواسطة الكمان مع مسيرة جنائزية للبيانو، ولكن التغيير الجديد يحدث عندما يتم إلحاق قسم تطويرٍ ثانٍ قصير قبل الكودا [٦]. يستحضر في الكودا اللّحن الافتتاحي بواسطة البيانو ببطئ مع الوتريات حتى تتلاشى الموسيقى. 

الحركة الثانية: تنويعات ومسيرة جنائزية

القسم الأول: ثيم مع تنويعات Tema con variazioni

عناصر الحركة الثانية هي لَحن (ثيم) مع سلسلة ضَخمة من أحد عشر تنوعتا حوله. هذا اللّحن الأَخَّاذ الذي يعطي طابع فولكلوري، يتم تقديمه لأول مرة بواسطة البيانو. 

ينوه بعضهم إلى حقيقة تشابه هذا (الثيم) مع افتتاحية الحركة الأولى من كونشيرتو البيانو الثاني لـ(تشايكوفسكي). هذا الكونشيرتو الذي كان من المفترض أن يقدم (نيكولاي روبنشتاين) العرض الأول له – تعويضًا لـ(تشايكوفسكي) – على الانتقادات التي وجهها لعمل (تشايكوفسكي) الناجح، كونشيرتو البيانو الأول. لكن توفي قبل تحقيق ذلك. [٥] 

  • التنويعة الأولى: تمثل إعادة تقديم الثيم على الكمان مع مرافقة مزخرفة للبيانو. 
  • التنويعة الثانية: التشيلّو مع مرافقة مزخرفة للكمان. 
  • التنويعة الثالثة: اسْكِرتزو مرح للبيانو مع مرافقة (بيتسكاتو) للوتريات. وهنا يبدأ الثيم بالانحراف والاختباء داخل التفاصيل والزخرفات. 
  • التنويعة الرابعة: من أشهر تنويعات العمل. معالجة للثيم بطريقة رقيقة وسلسة. 
  • التنويعة الخامسة: المحاكاة الرائعة لصندوق الموسيقى على البيانو. 
  • التنويعة السادسة: رقص الفالس الجميل بقيادة التشيلّو. 
  • التنويعة السابعة: كثافة لحنية تعطي شعور أجواء سمفونية. 
  • التنويعة الثامنة: فوغا. 
  • التنويعة التاسعة: تأمل رثائيّ صامت. 
  • التنويعة العاشرة: يعود الحماس مع (مازوركا) ممتعة، تعرض في البداية بواسطة البيانو. 
  • التنويعة الحادية عشر: عرض الثيم الرئيسي مع مرافقة متغيرة. 
القسم الثاني: تنويعة أخيرة وكودا Variazione finale e coda

القسم الأخير هو تنويعة أخيرة تم فصلها عن البقية من الحركة الثانية؛ طولها جعل بعض الباحثين يعدونه حركة ثالثة مستقلة (خاصة في نسخة أبريل ١٨٨٢م). هنا سيذهلنا (تشايكوفسكي) بإتقانه لأعماله. في بداية هذا القسم احساس بدخول مَهِيب يتكرر بقوة وينتقل من القهر إلى الحزن المُعتِم للّحن الرئيسيّ الرثائيّ، حتى تتسبب التنويعة الواسع تدريجيًا في تلاشي الموسيقى، ويتلاشى العمل بطريقة جنائزية على أصوات التشيلّو والكمان، piangendo (بحُزن)، معيدًا الصفحات الافتتاحية للعمل. [٧] 


أهمية العمل:

هذا التنوع المذهل للمكونات التعبيرية يتطلب عبقرية شبه أوركسترالية غير محدودة، مما يدل على أن لـ(تشايكوفسكي) إلهامه الجامح والذي لا نهاية له على ما يبدو، يعمل بشكل مثالي ضمن قوالب متعددة مع قيود وقواعد بسيطة. أثْنَى أصدقاءهُ كثيراً على العمل، على الرّغم من أنَّ القليل منهم إِشارَ إِلى مسأَلةِ طول العمل الكبير. 

جاءت أقوى الاعتراضات من الناقد الألماني(إدوارد هانسليك) (Eduard Hanslick) وهو كاره لـ(تشايكوفسكي)، عندما سمع العمل في فيينا قال: 

ينتمي هذا العمل إلى فِئة المؤلّفات الانتحاريَّة التي تقتلُ نفسها بِطولها الذي لا يَرحم. [٨] 

كَتَبَ ناقد آخر وهو (ماكس كالبيك) (Max Kalbeck) مراجعة وفيها ينتقد طول الثُلاثيّ أيضًا: 

إنه مُكَرس إلى ذكرى فنانٍ عظيم (نيكولاي روبنشتاين) ويحتوي في حركتيه اللامنتهيتان على “مَرثية” يمكن أن تكون كافية، بفضل طولها، لعشرين عازف بيانو راحل وثلاثين آخرين أحياء. [٤] 

كان (تشايكوفسكي) مدركًا لهذا الأمر، ورغم أنه حساس جدًّا تجاه النقد ألا أنه اخذ الأمر على محمل الجد. حيث حدد عدَّة مقاطع على أنها “اختيارية” لتعزف: التنويعة الثامنة (الفوغا)، وأجزاء في القسم الأخير من الحركة الثانية. هذه التعديلات غيرت طول القسم الثاني من الحركة الثانية من ١١ دقيقة ونصف إلى ٧ دقائق ونصف. 

يستغرق الأمر ٥٠ دقيقة فقط! إذا كنت قادرًا على الشعور بهذا التَوَتّر طوال العمل، فلن يكون لديك إحساس كمستمع بأن العمل طويل جدًّا. تشعر بالاتصال من النوتة الأولى إلى الأخيرة كما لو أنها حركة واحدة. هذا شيء يتطوّر بمرور الوقت عندما تستمع للعمل أكثر. لديك هذه الرحلة، وعند الخاتمة، تشعر – بطريقة ما – أنك قد وصلت. [٢]

لقد قيل أن الموضوع الرئيسي والتنويعات تصف الذكريات والأوقات التي قضاها (تشايكوفسكي) مع (روبنشتاين)، لكن (تشايكوفسكي) نفى هذه الفكرة تمامًا. [١] 

في رسالة إلى سيرغي تناييف (١٠ نوفمبر ١٨٨٢م):

قرأت مقال (سيرغي فليروف)، لايمكنني تصديق أن أي شخص من عالم الموسيقي قد استطاع إخباره بأن التنويعات في الثُلاثيّ تظهر قصصًا من حياة (نيكولاي روبنشتاين). أعتقد بأن هذه الفكرة الأَلمعيَّة لابد أن تكون من اكتشافه. لكم هو مضحك! أن المرء يكتب موسيقى من دون أدنى قصد في إظهار أي شيءٍ، ثم يقال له بغتة بأنها تظهر في الحقيقة شيئًا أو آخر.

ولكن هناك جانبان مهمان على الأقل في العمل يمثلان تكريمًا لـ(روبنشتاين). أولًا؛ من العلامات البارزة في هذا العمل هو جزء البيانو الذي كتب ببراعة تامة. حيث اِعتَنى (تشايكوفسكي) كثيرًا في هذا الجزء، الذي يتطلب أحيانًا عزفًا منفردًا. كان (روبنشتاين) عازف بيانو بارع وكان من المحتمل أن يعشق أداء قسم البيانو. وثانيًا؛ الطابع الرثائي للعمل. الموضوع الافتتاحي غارق في اليأس يتكرر في خاتمة الحركة الثانية بقوة أكبر ليمثل نهاية صارخة لمسيرة جنائزية. [١] 

بالنسبة للمؤلّفين الرُّوس أسس ثُلاثيّ (تشايكوفسكي) ما يمكن تسميته تقليدًا لـ“ثلاثيات بيانو رثائية روسيّة”. كانت وفاة (تشايكوفسكي) مفاجئة في السادس من نوفمبر ١٨٩٣م، كما كانت وفاة (روبنشتاين). وعند وصل الخبر لـ(سيرغي رحمانينوف) قرر تَكريس عمله ثُلاثيّ البيانو الثاني (Trio élégiaque) إحياءً لذكرى (تشايكوفسكي).

وعندما توفي (رحمانينوف) في الغربة في كاليفورنيا عام ١٩٤٣م، قام المؤلف الروسي (ألكسندر غولدنفايزر) بكتابة ثُلاثيّ بيانو في ذكرى (رحمانينوف). وقبله (أنطون أرينسكي) في عام ١٨٩٤م كَرس عمله ثُلاثيّ البيانو الأول لعازف التشيلّو الراحل (كارل دافيدوف). تستمر هذه “السلسلة الرثائية”. ثُلاثيّ البيانو الثاني لـ شوستاكوفيتش، مُصنَّف 67، كان قد كتبهُ في ذكرى صديقهِ الرّاحل (إيفان سولِرتنسكي).  

هذه هي الأعمال الأكثر أهمية من الثلاثيات الرثائية – ربما هناك اصل موسيقي للقول المأثور: 

عندما يكونُ الرّوسيّ حزينًا، فَهُوَ حزينًا جدًّا؛ وعندما يكون الرّوسيّ حزينًا جدًّا، فَهُوَ في أفضلِ حالاته. [٧] 


المصطلحات:

  • لون صوتي  :(timbre)هناك عادةً ما يميز الصوت الموسيقي الذي تنتجه آلة موسيقية معينة مثل (الفلوت)، عن الصوت الذي تنتجه آلة أخرى مثل (الكمان). كل واحدة من هذه الآلات الموسيقيّة لها ميزة في صوتها الموسيقي او لونها المميز.  هذا الخصيصة تسمى اللون الصوتي او الطابع الصوتي. 
  • رثائيّ (elegiaco): جزء حَزِين، مُبكِي، وبشكل أكثر تحديدًا رثاء للموتى. عادة ما يعني إيقاع بطيئ ومفتاح ماينور وسير نحو الظلمة مع تصاعد في الألم المأساوي، أو أيضًا، ازدهار لطيف ومشرق في حُب وحنين. السرد الموسيقي الذي يجمع بين كل هذه الحالات المزاجية هو تمثيل صادق بشكل مؤلم للأَسَى.
  • فكرة لحنية :(Moto theme) لحن يتكرر باستمرار أثناء سير المقطوعة الموسيقيّة. 
  • ثيم وتنويعات (Theme and Variations): هيكل حركة شائع، يتميز بلحن أولي متبوعًا بسلسلة من التنويعات حول هذا اللحن، كل منها يعدل في عدة عناصر موسيقية لتحقيق التنوع، على سبيل المثال: سرعة الإيقاع، طبيعة الإيقاع، المفتاح، والآلات. وهذا فيه تحدي لإبداع المؤلف ولفهم ومتعة المستمع. 
  • مازوركا (Mazurka): رقصة ريفية بولندية. ميزانها ثُلاثيّ. كتب شوبان الكثير منها. 

(مصادر المصطلحات: مجلة الحياة الموسيقية، وزارة الثقافة للجمهورية العربية السورية؛ وكتاب الموسيقى والرسم لـ فوزي كريم، دار نون للنشر، ط1، 2015)

ملاحظة 1: جميع الرسائل اخذت من موقع مشروع tchaikovsky-research (المصدر ١٤)، واستخدم في الترجمة كتاب: ألكسندرا أورلوفا، تشايكوفسكي: سيرة ذاتية، (ترجمة سمير علي). أبو ظبي: هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث (المجمع الثقافي)، 2009. 


المصادر:


إعداد وترجمة: أحمد قادم
تحرير: أحمد بادغيش
زر الذهاب إلى الأعلى