المعرفة والفكر الفلسفيفقه الأخلاق

جاك دريدا وفلسفته عن الكذب

دريدا

جاك دريدا (1930-2004)، فيلسوف فرنسي من مواليد الجزائر، صاحب نظرية التفكيك.

في محاضرة ألقاها (دريدا) في الجامعة الدولية للفلسفة بالعاصمة الفرنسية باريس، تحدث (دريدا) عن الكذب من منظور فلسفي. وقد تُرجمت هذه المحاضرة إلى العربية في كتاب حمل عنوان (تاريخ الكذب)، من ترجمة الأستاذ (رشيد بازي).

يقول (دريدا) في محاضرته:

فالكذب لا يعني على العموم الخطأ والغلط، فبإمكاننا أن نخطئ أو نغلط دون أن نكون قد كذبنا، وقد يحدث أن نمدّ الآخرين بمعلومات خاطئة، دون أن يعني ذلك أننا قد كذبنا عليهم. فعندما ننطق بأقوال خاطئة أو مغلوطة ونحن نعتقد أنها صحيحة، ونوصلها إلى الآخرين دون أن نقصد خداعهم، فنحن لا نكذب. فلا يكفي أن نصرح بأقول أو نعبر عن أفكار وآراء خاطئة نعتقد على الأقل، في قرارة أنفسنا أنها صحيحة لنكون كاذبين.

ومن ثمة يجب علينا التطرق إلى مسألة النية أو النية الحسنة، والتي سبق لـ(القديس أغسطين) أن أشار إليها في افتتاحيته لرسالته المعنونة بـ(في الكذب). فهو يقترح التمييز بين الاعتقاد والاقتناع، وهذا التمييز يكتسب بالنسبة لنا اليوم وبصفة متجددة أهمية قصوى. الكذب على الآخرين يتضمن الرغبة في خداعهم، وذلك حتى إذا كانت أقوالنا حقة. والحال أنه بإمكاننا أن ننطق بأقوال خاطئة، دون أن نكون كاذبين، وأن نقول أقوالًا  حقّة الهدف منها خداع الآخرين ونكون آنذاك كاذبين.

وعندما نعتقد أن ما نقول صحيح ونؤمن به، فلا يمكن أن نكون كاذبين، حتى في حالة كون أقوالنا خاطئة. فعندما يؤكد (القديس أغسطين) بأنه “إذا قال أحد قولًا  يعتقد أنه صحيح، أو هو على اقتناع بأنه حق، فهو لا يكذب حتى في حال ثبوت خطأ ذلك القول”.

ثم يقول في موضع آخر:

ففعل الكذب يعني أننا نتوجه بالكلام إلى الآخرين، لكي نسمعه قولًا  أو مجموعة من الأقوال الإنجازية Performatifs أو أقوال المعاينة Constatits، نعرف وفق وعي بيّن وهادف وحالي بأنها ادعاءات خاطئة جزئيًا أو ربما كليًا. هذه المعرفة وهذا العلم وهذا الوعي ضروريين لفعل الكذب. وحضور هذه المعرفة لا يتعلّق فقط بمحتوى ما يُقال، بل كذلك بمحتوى ما نحن ملتزمين به تجاه الآخرين، بحيث أن فعل الكذب يبدو للكاذب كليًا على أنه خيانة وأذى وتقصير في رد دين أو قيام بواجب. 

[…] هذه الأفعال المقصودة يُقام بها دائمًا اتجاه الآخرين قصد أولا وقبل كل شيء خداعهم، أو إلحاق الأذى بهم، أو تضليلهم، وذلك بمجرد دفعهم إلى اعتقاد أشياء يعرف الكاذب أنها خاطئة.

ثم يستشهد مرة أخرى بمقولة أخرى لـ(القديس أغسطين):

نحن لا نكذب عندما نزعم أشياء خاطئة نعتقد أنها صحيحة […] ونكون كاذبين عندما نزعم أشياء صحيحة، نعتقد أنها خاطئة. وذلك لأنه لا يمكن الحكم على مدى مطابقة الأفعال للأخلاق إلا من خلال المقاصد.

فالكذب هو نوع من الخداع، وخيانة لاتفاق ضمني بين المتحدث والمستمع على قول الحقيقة. يقول (دريدا) في هذا:

الكذب يتخذ طابعًا انحيازيًا، وذلك لأنه يتضمن في الوقت نفسه وعدًا بقول الحقيقة وخيانة لذلك الوعد، ويرمي إلى خلق الحدث والدفع إلى الاعتقاد، في حين أنه لا يوجد أي شيء قابل للمعاينة، أو على الأقل بإمكان المعاينة احتواءه بصفة شاملة، إلا أن هذه الإنجازية تقتضي في الوقت نفسه الإحالة على القيم كالواقع والحقيقة والخطأ، وإن كان يفترض أنها لا تخضع لأي قرار إنجازي.

كما أن شرطًا آخر للكذب، هو الدراية بالتضليل، أي النطق بخلاف الواقع، أو ما يُعتقد بأنه واقع. يقول (دريدا) في موضع آخر من محاضرته:

من البديهي أن الكاذب يعرف الحقيقة، وإن كان لا يعرف كل الحقيقة فهو على الأقل يعرف حقيقة ما يفكر فيه، ويعرف ما يعزم على قوله، ويعرف كذلك الفرق الموجود بين ما يفكر فيه وما يقوله، أي أنه يعرف بأنه يكذب.

أحمد بادغيش

مدوّن، مهتم بالأدب والفلسفة والفنون.
زر الذهاب إلى الأعلى