المعرفة والفكر الفلسفي

“الحرية في صميمها وجوهرها إطلاق العنان للناس يلتمسون مصلحتهم أيّان يبتغون” يقول (ميل)، “ما داموا لا يحاولون حرمان الغير مصالحهم”

جون ستيوارت مل (1806-1873) هو فيلسوف واقتصادي بريطاني. في السابعة عشرة من عمره، بلغ مبلغ الرجال على المستوى العقلي، فقد كان صافي الذهن، صريح، فصيح جدا، بالغ الوقار دونما أثر لخوف أو غرور، وخلال السنين العشر التالية، زاول كتابة المقالات والنقد، وحمل عبء الحركة النفعية على كاهله، وكانت مقالاته مصدر شهرة واسعة له، مما جعله خبير في الشؤون العامة.

تعد مفاهيم الحرية هي الرمز الأول الذي يرتبط بكتابات وفلسفة (جون ستيورات ميل)، فمن آبرز إنتاجاته كان كتابه (الحرية) والذي نقله إلى اللغة العربية الأستاذ (طه السباعي باشا).

يقول (ميل) في أحد فصول كتابه، كان عنوانه “في أن المسوغ الوحيد للتعرض لحياة الفرد هو حماية مصالح الغير”:

… ومضمون هذا المبدأ أن الغاية الوحيدة التي تبيح للناس التعرض، على الانفراد أو الاجتماع، لحرية الفرد هي حماية أنفسهم منه. فمنع الفرد من الإضرار بغيره هو الغاية الوحيدة التي تسوغ استخدام السلطة على أي عضو من أعضاء جماعة متمدينة، أما إذا كانت الغاية المنشودة من إرغام الفرد هي مصلحته الذاتية أدبية كانت أو مادية، فذلك لا يعتبر مسوغًا كافيًا؛ وإذن لا يجوز البتة إجبار الفرد على أداء عمل ما أو الامتناع عن عمل بدعوى أن هذا الأداء أو الامتناع أحفظ لمصلحته وأجلب لمنفعته وأعود عليه بالخير والسعادة ولأنه في نظر سائر الناس هو عين الصواب بل صميم الحق.

ثم يتابع بعد ذلك في الفصل ذاته:

فالإنسان غير مسؤول أمام المجتمع عن شيء من تصرفاته إلا ما كان منها ذا مساس بالغير، فأما التصرفات التي لا تخص غير نفسه ولا تتعلق بغير شخصه فهو فيها كامل الحرية مطلق الإرادة، وذلك لأن الإنسان سلطان في دائرة نفسه وأمير حر التصرف في جسمه وعقله.

يتطرق بعد ذلك (ميل) إلى الأحوال التي يجوز فيها التعرض لحرية الفرد، على حد تعبيره، فيقول:

والواقع أن الفرد قد يؤذي غيره بالكف عن التصرف كما قد يؤذيهم بالتصرف، وفي كلا الحالتين يحق للغير محاسبته عمّا ألحق بهم من الأذى؛ على أن استعمال الإكراه في الحالة الأولى يستوجب من الحذر والاحتراس ما لا يستوجباستعماله في الحالة الثانية؛ لأن القاعدة في هذا الباب هي محاسبة المرء عما وقع بغيره من الضرر، أما محاسبته لإهماله في دفع الشر عن سواه فشذوذ واستثناء، ولا يسوغ ولا يبرر إلا في الأحوال الخطيرة التي ينتفي عنها كل شك وارتياب وكثير ما هي.

وأخيرًا، يضع (ميل) في ذلك قاعدة للمجتمعات الحرة، فيقول:

فأيما مجتمع لا تُحترمك فيه تلك الحريات على وجه عام فهو غير خليق بأن يوصف بالحرية مهما كان شكل حكومته؛ وأيما مجتمع لا تقوم فيه تلك الحريات موفورة غير منقوصة، وخالصة غير مشوبة فهو غير كامل الحرية. ولا بدع فإنما الحرية في صميمها وجوهرها إطلاق العنان للناس يلتمسون مصلحتهم أيّان يبتغون وكيفما يريدون، ما داموا لا يحاولون حرمان الغير مصالحهم، وعرقلة مجهودهم في سبيل مرافقتهم. فالفرد دون سواه هو المسؤول عن نفسه، وهو أحق الناس بأن يكون الولي على أحواله بدنية أو عقلية، مادية أو أدبية.

أحمد بادغيش

مدوّن، مهتم بالأدب والفلسفة والفنون.
زر الذهاب إلى الأعلى