الحضارات البشرية والتاريخ

ما الذي يميّز الإنسان المتمدن عن غيره؟ (برتراند راسل) يجيب

برتراند راسل (1872-1970) فيلسوف وعالم منطق ورياضي وأيضاً هو مؤرخ وناقد اجتماعي بريطاني.

في سلسلة كتبه (تاريخ الفلسفة الغربية)، والمكوّنة من ثلاث أجزاء، أولها هو (الفلسفة القديمة) من ترجمة الأستاذ (زكي نجيب محمود)، والذي تحدّث (راسل) عن الفروقات الأساسية التي صنعتها المدنية الأولى في سيكلوجية الإنسان، فيقول:

إن الإنسان المتمدن يتميز من الهمجي بسداد الرأي قبل كل شيء، أو إذا شئت لفظة أشمل قليلًا من تلك، فقل إنه يتميز ببعد النظر، الذي يتنبأ بما سيقع قبل وقوعه، فتراه لا يأبى احتمال الألم الراهن من أجل لذة مستقبله، حتى وإن كانت تلك اللذة المقبلة بعيدة الوقوع.

يتحدث بعد ذلك (راسل) عن هذا التغيّر المهم في تكوين الإنسان، فيقول:

وقد أخذت تظهر أهمية هذه العادة حين بدأت الزراعة، فليس هناك حيوان ولا إنسان من الهمج يعمل في الربيع لكي يدّخر طعامً للشتاء، اللهم إلا قليلًا من الحالات الغريزية الخالصة، كالنحل يصنع العسل، والسنجاب يدفن البندق تحت الثرى؛ وليس ثمة بُعد نظر في هذه الحالات، بل هناك دافع مباشر يدفع الحيوان إلى فعلٍ لا يعلم عن نفعه في المستقبل إلا الإنسان المتفرج؛ إن بُعد النظر الحقيقي هو الذي يقع حين يفعل الإنسان فعلًا لا يدفعه إلى فعله دافع طبيعي، بل يفعله لأن عقله يهديه إلى أنه سينتفع بهذا الفعل في تاريخ مقبل؛ ولا يحتاج الصيد إلى بُعد نظر لأنه لذيذ، أما حرث الأرض فعمل شاق ويستحيل فعله بدافع فطري باطني.

هذا التغير الأساسي في سيكلوجية الإنسان، نتج عنه عدد من الأطر والحدود التي تواطأ عليها الإنسان المتمدن. فيقول (راسل):

والمدنية من شأنها أن تلجم الدافع الفطري؛ وليس وسليتها في ذلك بُعد النظر فحسب، الذي هو من فرض الإنسان على نفسه، بل إن من وسائلها أيضًا في كبح الدوافع الفطرية، القانون والعادات والدين؛ وهي تَرِث هذا الكباح من عصر الهمجية، لكنها تخفف الجانب الغريزي فيه وتجعله أكثر اتساقًا في أجزائه بحيث لا ينقض بعضها بعضًا؛ فترى بعض الأفعال قد وُصفت بأنها إجرام وخُصص لها العقاب، وبعضها لا يعاقب عليه القانون، لكنه يوصف مع ذلك بالشر، والذين يفعلون مثل هذه الأفعال يتعرضون لسخط الناس.

ثم يختتم (راسل) هذا الجزء من كتابه، فيقول:

أما في نطاق الفكر، فالمدنية الرصينة هي والعلم اسمان على مسمى واحد على وجه التقريب؛ لكن العلم الخالص وحده لا يُقنع، فالناس بحاجة إلى العاطفة والفن والدين؛ ولئن جاز للعلم أن يصنع الحدود للمعرفة، فلا يجوز أن يضع أمثال هذه الحدود للخيال.

أحمد بادغيش

مدوّن، مهتم بالأدب والفلسفة والفنون.
زر الذهاب إلى الأعلى