العلوم البشرية والاجتماعيةترجمات حصرية
أخر الأخبار

ما شكل الاكتئاب في الواقع؟

" … نوبات الھلع الخفیفة التي يسببها الاكتئاب تأخذ شكل ألمٍ جسماني".

في رسالة كتبها (فنسنت ڤان غوخ) لأخيه يصف فيها المعاناة العقلية للاكتئاب مصورًا هذه المعاناة في استعارةٍ مثالية بالغة العمق: “يشعر المرء كما لو أنه قد ألقي مكبل اليدين والقدمين في قاع بئر مظلم وعميق عاجز تمامًا عن الخروج منه”. فأي شخص كابد هذا المرض المضني يدرك تمام الإدراك أن خصائص مياه البئر العادية تختلف من الناحيتين النوعية والبيوكيميائية تمامًا عن مياه بئر الحزن التي وصفها (ڤان غوخ). على الرغم من استكشافات العلماء للأصول التطويرية للاكتئاب والدور الذي قد يسهم به النوم الإرتيابي (الريمي)، إلا أن استيعاب المرض والتعبير عن تجربته ما يزال مسألة مستمرة تحبط المصابين وتحير أولئك الذين حالفهم ونجاهم الحظ من السقوط في قاع البئر.

لم يسبق لأحد أن أمسك هذا الوباء الذي لا ينفك عن النفس البشرية بجسارةٍ وقوةٍ كما فعل الروائي (ويليام ستايرون) (١٩٢٥ – ٢٠٠٦) الذي سرد معاناته مع الاكتئاب في مذكراته بعام ١٩٩٠ والتي نُشرت في كتاب بعنوان (ظلام مرئي : مذكرات الجنون)، والذي ترجمه إلى العربية الأستاذ (أنور الشامي).

وصف (ستايرون) حاله بعد دخوله لأول مرة في الستين من عمره إلى علاج الاكتئاب السريري قائلًا:

وباعتباري أحد ھؤلاء الذين عانوا ھذا الداء حتى  أصبحت على حافة الموت، ولكني ُعدت كي أروي حكايتي معه..

يحكي مستعرضًا تراكماته الثقافية :”وھي زوبعة حقیقیة ُيسمع عواؤھا داخل الدماغ..” يدفعه التشابك “..البالغ التعقید بین عناصر الكیمیاء والسلوك والجینات الشاذة”.

يستطرد بعدها:

حینما أدركت للمرة الأولى أن المرض قد تمكن مني وأنھكني، شعرت أنه يتعين علي، من بين أمور أخرى أن أسجل احتجاجًا قويًا على كلمة “اكتئاب” كان اضطراب الاكتئاب، حسبما يعرف معظم الناس، ُيسمى سابقًا “ملانخولیا“، وھي كلمة يعود ظھورھا الأول في اللغة الإنجلیزية إلى العام ١٣٠٣م، ويتكرر ظھورھا لدى (تشوسر)، الذي يبدو أنه كان يستخدمھا وھو مدركٌ لإيحاءاتھا المرضیة.

وما زالت كلمة “ملانخولیا” تبدو ھي الأنسب والأصدق تعبیًرا عن أشد أشكال المرض قتامة، ولكن ثمة اسمًا ذا وقعٍ مضجر ويفتقر إلى أي حضور أو جلال قد انتزع مكانھا وبات ُيستخدم من دون تفرقة لوصف حالة من الركود الاقتصادي أو َوھدة من وھاد الأرض، وھي كلمة ضعیفة فعلا لا تنھض بالتعبیر عن ھذا المرض الخطیر.

ربما لم تكن لدى ذلك العالِم المسؤول عن تداولھا في العصر الحديث، وھو الطبیب النفسي (أدولف ماير)، المولود في سويسرا، وعضو ھیئة التدريس في كلیة الطب بجامعة (جونز ھوبكنز) الذي أكن له كل احترام وتبجیل، ربما لم تكن لديه تلك الأذن المرھفة التي تستطیع أن تستوعب تمامًا الإيقاعات الصوتیة الدقیقة للغة الإنجلیزية، ولذلك لم يدرك الضرر الدلالي الذي أوقعه عبر طرحه كلمة “اكتئاب” كاسمٍ وصفي لھذا المرض الرھیب المستشري على نطاق واسع.

وعلى الرغم من ذلك، فقد ظلَّت الكلمة وعلى مدى أكثر من خمس وسبعین سنة، تزحف ببراعة داخل اللغة وكأنھا بزاقة َّ، لا تقول سوى القليل عن سمة الخبث المتأصلة فیه، كما أنھا ـ وبسبب وقعھا الرتیب ـ تَحول من دون تَشكل فھم عام لشدة المرض وفظاعته حینما يخرج عن نطاق السیطرة”.

ويليام ستايرون (11 يونيو ١٩٢٥ – 1 نوفمبر ٢٠٠٦).

إحدى أبرز مفارقات هذا المرض رغم تفشيه الفظيع –  أنه يصنف ضمن أكثر أشكال الإعاقة شيوعًا في عالم اليوم – سيما وأن أعراضه لا يمكن ملاحظتها من الخارج حيث يصعب تمامًا الكشف عن الإصابة بالاكتئاب من عدمه. ومع ذلك، فإن كل ما يدور في الداخل ثاقبٌ لا لبس فيه. يمسك (ستايرون) الثقب بإحكامٍ ليقول:

نوبات الھلع الخفیفة التي يسببها الاكتئاب تأخذ  شكل ألمٍ جسماني غامض  وبعید كل البعد عن خبرات الألم العادية. ولكنه لیس ألمًا يمكن للمرء أن يحدد موضعه على الفور، مثل ذلك الذي ينجم عن كسرٍ في أحد الأطراف. 

وربما يكون من الأدق القول إن الیأس، ونتیجة لبعض الحیل الخبیثة التي تمارسھا النفس على الدماغ  السقیم، يشبه ذلك الإحساس الرھیب بالضیق الذي يعتريك حینما تُحبس داخل غرفة شديدة الحرارة. 

ونظرًا لأنه لا يوجد نسیم ھواء يخفف من ھذا الضیق الرھیب، ولأنه لا مھرب من ھذا المحبس الخانق، فمن الطبیعي تمامًا أن تبدأ الضحیة في التفكیر بلا توقف في  الموت.


[المصدر]

ترجمة: ابتهال زيادة
مراجعة وتحرير: أحمد بادغيش
زر الذهاب إلى الأعلى