فقه الحياة

مسببات التعاسة عند راسل

Bertrand Russell

برتراند راسل (1872-1970) فيلسوف وعالم منطق ورياضي وأيضاً هو مؤرخ وناقد اجتماعي بريطاني. في كتابه (انتصار السعادة) يبحث في الجزء الأول عن “مسببات التعاسة” فيقول:

ما الذي يجعل الناس تعساء؟

الحيوانات سعيدة طالما كانت بصحة جيدة ولديها ما يكفيها من الطعام، ورغم أن البشر يجب أيضا أن يكونوا كذلك، إلا أنهم في عالمنا الحديث ليسوا سعداء.

ومسببات هذه الطُرُز المختلفة من التعاسة تعود جزئياً إلى النظام الاجتماعي وجزئياً إلى الحالة النفسية الفردية والتي هي بالطبع نتاج للنظام الاجتماعي إلى حد كبير.

التعاسة البيرونية

فالرجل الحكيم سوف يكون سعيداً ما سمحت الظروف بذلك، فإذا ما وجد أن التفكير في الكون مؤلم, فإنه سوف يفكر في شيء آخر بدلاً منه, فالمنطق لا يضع قيوداً على السعادة، والأكثر من ذلك، فأنا مقتنع أن هؤلاء الذين يرجعون أحزانهم بأمانة إلى أفكارهم عن الكون يضعون بذلك العربة أمام الحصان، فالحقيقة أنهم تعساء لأسباب لا يدركونها، وهذه التعاسة تقودهم إلى التفكير فى الخصائص الأقل تقبلاً للعالم الذى يعيشون فيه.

فالحيوان الإنساني كغيره من الحيوانات متأقلم على كمية معينة من الصراع من أجل الحياة وعندما يتمكن الإنسان بواسطة الثروة الكبيرة من إشباع كل رغباته دونما مجهود، فإنه مجرد غياب الجهد من حياته يزيل مكونا رئيسياً من مكونات السعادة منها. فالإنسان الذي يمتلك بسهولة الأشياء التى يحس تجاهها برغبة متوسطة يستنتج أن الوصول إلى تحقيق رغباته لا يحقق السعادة. فإذا كان من ذوى الميول الفلسفية، فإنه يستنتج أن الحياة الإنسانية هي بضرورة بائسة، حيث أن الإنسان الذي لديه كل ما يحتاج لا يزال غير سعيد وينسى أن افتقاد الإنسان لبعض الأشياء التى يحتاجها يعد جزءاً لا غنى عنه من السعادة .

التنافس

إذا سألت أي رجل في أمريكا أو أي رجل أعمال في إنجلترا: ما الشيء الذي يتعارض مع استمتاعه بوجوده؟ فسوف يجيبك: الصراع من أجل الحياة.

الصراع من أجل الحياة”، جملة غير دقيقة التقطها واستخدمها كى يضفى الأهمية على أمر تافه في أساسه. اسأله: “كم من الرجال الذين عرفهم من طبقته ماتوا جوعاً؟” اسأله: “ما الذي حصل لأصدقائه عندما حاق بهم الخراب؟” فكل فرد يعلم أن رجل الأعمال الذى حاق به الخراب يزيد كثيراً، فيما يملك من وسائل الراحة المادية، أي رجل لم يكن أبداً غنياً بالدرجة الكافية التى تسمح بخرابه، فالذي يعنيه الناس إذن بالصراع من أجل الحياة هو في الحقيقة صراع من  أجل النجاح، وما يخشاه الناس عندما ينشغلون في الصراع ليس أنهم قد يفشلون فى الحصول على إفطار صباح اليوم التالي، ولكن في أنهم قد يفشلون في التميز عن جيرانهم.

أن النجاح عبارة عن أحد مكونات السعادة وأن الثمن الذى يدفع فيه يكون فادحاً  إذا ما تمت التضحية بكل المكونات الأخرى من أجله فقط.

الحسد

ربما يجيء الحسد تالياً كأحد أقوى مسببات التعاسة، والحسد من أكثر المشاعر الإنسانية شيوعاً وتعمقاً في وجودها.

ويعد الحسد من أسوأ خصائص الطبيعة الإنسانية العادية، فالحاسد لا يود فقط أن تقع المصيبة بل يوقعها بنفسه إذا استطاع أن يفلت من العقاب. ولكن الحاسد يصبح هو نفسه تعيساً بهذا الحسد، فبدلاً من أن يسره ما لديه يؤلمه ما لدى الآخرين فلو استطاع لحرم الآخرين ميزاتهم ويكون ذلك بالنسبة له مرغوباً كما لو أنه حصل على هذه المزايا لنفسه. ؤإذا ما سمح لهذه العاطفة أن تعربد فستميت كل امتياز وكل الممارسات النافعة للقدرات الاستثنائية.

فالرجل الحكيم لا يفقد ما لديه القدرة على إمتاعه لأن أحداً غيره لديه شيء مختلف.

والحسد هو في الحقيقة إحدى صور الرذيلة، وهى جزئياَ أخلاقياً وجزئياً فكريا، وتنجم عن عدم رؤية الأشياء في ذاتها وإنما في علاقاتها ببعضها البعض فأنا مثلاً أكسب راتباً كافياً لاحتياجي. يجب أن أكون قانعاً ولكننى أسمع أن شخص آخر، لا أعتقد أن يفضلنى على الإطلاق، يكسب راتباً يعادل ضعف راتبي، ففى التو واللحظة إذا كانت طبيعتي حسودة، فإن الإشباع الذي كنت أحصل عليه مما عندى يصبح معتماً ويبدأ الإحساس بالظلم يأكلني.

الخوف من الرأى العام

قليل جداً من الناس يمكنهم أن يصبحوا سعداء إذا لم يوافق على طريقتهم في الحياة ونظرتهم إلى العالم أولئك الذين تربطهم بهم صلات اجتماعية وعلى الأخص الذين يعيشون معهم.

فقد يجد الشخص الذي له مذاقات ومعتقدات معينة، نفسه منبوذاً وهو يعيش في مجموعة معينة رغم أنه قد يقبل كإنسان عادى تماماً في مجموعة أخرى.

ثم يقول : “اللامبالاة الصادقة بالرأي العام تعد مصدر قوة وسعادة معاً”.

وعن تجربته الخاصة يقول:

أفضًل تقديم للفلسفة التى أرغب في طرحها، بضع كلمات عن واقع تجربتي الشخصية، فأنا لم أولد سعيداً، كطفل كانت ترنيمتي المفضلة هى”سئمت الدنيا، وثقلت ذنوبي”، وفى سن الخامسة، تأملت في أننى لو عشت لأبلغ السبعين فأنا قد تحملت حتى الآن جزءاً واحداً من أربعة عشر جزءا من حياتي كلها، وشعرت بأن الملل الذى ينتظرني يمتد طويلاً ولا يمكننى احتماله. وعند البلوغ كرهت الحياة وكنت دائماً على حافة الانتحار، وما منعنى من ذلك سوى رغبتي فى معرفة الرياضيات أكثر، أما الآن فأنا على النقيض من ذلك، استمتع بالحياة وربما قلت أنه مع كل سنة تمر بحياتي يزداد استمتاعي بالحياة أكثر وأكثر، ويرجع ذلك جزئياً إلى أننى اكتشفت الأشياء التى أرغبها بشدة وأننى حصلت تدريجياً على كثير من هذه الأشياء، وجزئًيا إلى أننى تمكنت بنجاح من أن أطرد من ذهنى بعض الرغبات مثل الحصول على معرفة يقينية عن أمر ما، لأن ذلك بالضرورة أمر غير ممكن, ويعود أيضاً بالدرجة الأكبر إلى اضمحلال استغراقي في ذاتي.

زر الذهاب إلى الأعلى