المعرفة والفكر الفلسفي

لماذا اعترض سقراط على الكتابة ؟ رسالة سقراط إلى جيل الانترنت

Portrait Herm of

اعترض سقراط على الكتابة بشكل كبير، وفي معرِض اعتراضه يقدم لنا سقراط -كما نقل لنا أفلاطون– أقوى وأعمق الدروس التي أحوج ما نكون لها اليوم حيث التمييز بين المعلومات والمعرفة. سقراط كان يعتقد بأن الاعتماد على الكتابة سوف يُجهز على الذاكرة والنقطة الأهم كان يرى بأن القراءة ستدفع الطلاب للتفكير بأنهم حازوا على المعرفة، في حين أنهم  حازوا على المعلومات فقط.

في محاورة “فيدروس” -التي كتبها أفلاطون على لسان سقراط- يحكي سقراط قصة آلهة مصرية اسمها تحوت، مكتشفة الحروف الأبجدية، وماذا قال الملك الإله المصري “آمون” (تاموز باليونانية) لتوت عن هذا الاختراع.

هذا الاختراع سينتهي بمن سيعلمونه إلى ضعف التذكر لأنهم سيتوقفون عن تمرين ذاكرتهم. سيثقون بالحروف الأبجدية الخارجية المكتوبة ولن يتذكروا بأنفسهم. إنك لم تجد علاجاً للذاكرة ولكن للتداعي… أما بخصوص الحكمة فإن ما قدمته لتلاميذك ليس هو الحقيقة بل مظهرها، فهم حين يتجرعون بفضلك المعلومات بغير استيعاب يبدون قادرين على الحكم في كل شيء بينما هم في معظم الأحيان جهلة لا يمكن تحملهم ومن ثم يكونون أشباه الحكماء من الرجال لا الحكماء

وللكتابة يا فايدروس تلك الصفة العجيبة التي توجد أيضاً في التصوير، وذلك لأن الصور المرسومة تبدو كما لو كانت كائنات حية، ولكنها تظل صامتة لو أننا وجهنا إليها سؤالاً، وكذلك الحال في الكلام المكتوب. إنك لتظنه يكاد ينطق كأنما يسري فيه الفكر ولكنك إذا ما استجوبته بقصد استيضاح أمر ما فإنه يكتفي بترديد نفس الشيء، وهناك أمر آخر هو أن الشيء بعد ان يكتب يظل ينتقل من اليمين إلى اليسار بغير مبالاة، فيساق إلى من يفهمون وإلى من لا يعنيهم منه شيئاً على السواء وهو فضلاً عن ذلك لا يدري إلى مَنْ مِن الناس يتجه أو لا يتجه. ومن جهة أخرى حين تتجه إلى موضوعه أصوات المعارضة أو حين يُحتقر ظلماً يصبح في حاجة لمساعدة مؤلفه لأنه لا يستطيع وحده أن يدرأ الخطر عن نفسه ولا يقدر على الدفاع عن نفسه.

ويمهد سقراط لصديقه فايدروس

أليس هنالك نوع من الكلام أفضل بكثير من هذا النوع وله من القوة ماهو أعظم وأبعد ؟ .. إنه ذلك الحديث المصحوب بالعلم المنقوش في نفس الرجل الذي يدرس، إنه الحديث الذي لا يقوى على الدفاع عن نفسه، وهو الذي يعلم لمن ينبغي أن نوجه الكلام ولمن لا ينبغي أن نوجهه… حديث حي ذو نفس.

ويتساءل سقراط

إن كان لدى الزارع الماهر بذور يهتم بها ويتمنى ان تثمر فهل يذهب بها على التو وفي فصل الصيف فيبذرها كي يراها تزدهر في ثمانية أيام ؟ أم أنه يفعل ذلك بغرض اللهو كأن يكون بسبب العيد مثلاً لو فرض أنه حدث فعلاً؟ أليس المعقول أنه يعتني بها فيسترشد بفن الزراعة كي يبذرها في الأرض المناسبة ثم يسعد بجنيها بعد ثمانية أشهر حين يبلغ ما بذره تمام نضجه ؟…. وفيما يتعلق بمن حصل على علم العدل والجمال والخير، أتظن أنه سيكون أقل تعقلاً من الزارع عند استعماله لبذوره ؟

إذن من يعني بالأمر لن يأخذ قلماً يكتب به على الماء أحاديث ليست قادرة فقط على الدفاع عن نفسها بالكلام بل هي غير قادرة على تعليم الحقيقة بالطريقة الصحيحة.. لا إن هذا ليس مُحتملاً- فلا يوجد في الواقع أحد يبذر حقائق الكتابة هذه إلا بغرض التسلية أو لكي يحتفظ بها صاحبها لنفسه على أنها كنز من الذكريات ينتفع به حين يبلغ الشيخوخة ذات النسيان، او من كان مثله يتبع نفس الطريق.

ويضيف

ولكن يبدو لي أن هناك شيئاً أجمل حين نتجه إلى هذه الغاية، وهو أنه إذا وجدنا نفساً قابلة لأن نبذر فيها بالعلم وقواعد الجدل أحاديث قادرة على تأييد نفسها وتأييد من أنبتها ولا تظل عقيمة بل تحمل البذور التي تنبت في النفوس الأخرى أحاديث أخرى مزدهرة دائماً تجدد البذر حتى تضمن له الخلود وتحقق لمن يحصل عليها أكبر نصيب من السعادة الممكنة للإنسان على الأرض.

وبهذا التأييد للتعليم الشفهي على التدريس الكتابي يختتم أفلاطون -على لسان معلمه سقراط- رسالته إلى جيل الانترنت.

المصدر

فهد الحازمي

كنت طالباً جامعياً وسأظل طالباً إلى الأبد.
زر الذهاب إلى الأعلى