المعرفة والفكر الفلسفي

الرّاحل صادق جواد سليمان موسوعة ثقافيّة خالدة

الحرّية والمسؤوليّة هما بمثابة كفتي الميزان، لابدّ من تواجدهما معًا في تقابل، لأجل تعزيز الاستقرار وتفعيل النّماء معًا في تزامن

تحلّ الذّكرى الأولى – يوليو ٢٠٢٢م – لوفاة الكاتب والمفكِّر والدّبلوماسي السّابق (صادق جواد سليمان) [١٩٣٣-٢٠٢١م]، بعد مسيرة طويلة من العطاء الفكريّ والأدبيّ. ويُعدّ – رحمه الله – من الكتّاب العمانيّين الذين قدَّموا مجموعة من الكتابات الفكريّة الكثيرة والعميقة، في الآن نفسه.

كان موسوعة ثقافيّة شاملة على مستوى سلطنة عمان، والعالم العربيّ الإسلاميّ، فهو يقول:

الأجدر، إذن، في هذا الحاضر، أن يكون التّركيز على البناء الحضاريّ الذّاتيّ في كلّ قُطر عربيّ. بتعبير آخر: عندما تستوفي بلداننا، أو معظمها المعطيات الحضاريّة في بنائها الوطنيّ، سيتولّد من دفع ذلك استتباعًا سياق نحو التّكامل الحضاريّ بين شعوب الأمّة عبر الوطن الكبير.

إذ كتب وحاضر وحاور في مواضيع متنوّعة تنمّ عن فكر الرّجل الواسع، والإلمام بالقضايا القديمة والرّاهنة، بينما ناقش الدّين والحضارة، والفكر والحرّية، والثّقافة العربيّة، والحداثة، والمرأة، والأخلاق المعاصرة، وغيرها.

وفي هذه الأيّام المباركة، بعد عيد الأضحى، ومن باب ثقافة الاعتراف والاحتفاء بمفكِّرينا في العالَم العربيّ والإسلاميّ، أن نستذكر أبرز المشاغل الفكريّة للرّاحل.  

فكيف عمل (صادق جواد سليمان) على تنويع مصادره الثّقافيّة؟ ما الأدوات التي استعملها؟ وهل نجح في تمرير أفكاره على نطاق واسع؟ وهل فعلًا كان موسوعة متنقِّلة؟

وُلد (صادق جواد سليمان) في محافظة مسقط عام ١٩٣٣م، ودرس علوم اللّغة والدّين في مراحل دراساته الأولى، ثمّ حصل على ماجستير في السّياسة الدّوليّة العامّة من معهد الدّراسات الدّولية العليا، بجامعة جونز هوبكنز الأمريكيّة. إلى أن اشتغل في وظائف رسميّة متعدّدة، منها أعمال إداريّة وصحفيّة، كما تولّى منصب رئيس الدّائرة السّياسيّة في وزارة الخارجيّة بين [١٩٧٧-١٩٧٩م]. وفي الفترة بين [١٩٧٩-١٩٨٣م] أصبح سفيرًا لدى الولايات المتّحدة وكندا وإيران وتركيا وعدد من دول أمريكا الجنوبية، كما ترأّس (صادق جواد سليمان) مجلس إدارة الجمعيّة العمانيّة للكّتاب والأدباء في الفترة بين [٢٠١٠-٢٠١٢م].

كان الكاتب الرّاحل يؤكّد على الحقّ والواجب، في ما يتعلّق بالحرّية والمسؤوليّة، فقد أسسّ منهجه على عماد ثابت وقويّ، ما مدى حرّيتي؟ وما حدود مسؤوليّتي؟ هكذا نستشفّ الفكر المتّقد للرّجل، حيث يقول: “الحرّية والمسؤوليّة هما بمثابة كفتي الميزان، لابدّ من تواجدهما معًا في تقابل، لأجل تعزيز الاستقرار وتفعيل النّماء معًا في تزامن”؛ هذا الحرص الشّديد من (صادق جواد سليمان) رحمه الله، على التّوازن بين الحرّية والمسؤوليّة كان سببه التّراجع العربيّ الإسلاميّ فيما يخص الحرّية وخصوصًا حرّية التّفكير، وهي من المواضيع التي قلّما أشار لها مفكّر أو كاتب؛ نظرًا لحساسيّتها، إلّا أنّه لامس الأمر قائلًا:

 إنّ أحد أخطر أسباب تراجع الأمم هو تعطل توليد فكر حيويّ حرّ بسبب غياب حرّية التّفكير، ومن ثمّ الإدمان على نقيض ذلك: أي الإدمان على اجترار أفكار الماضي ومعارفه غير المحقّقة عِلميًّا والتّشبّث بها في حاضر تجاوزها بأفكار ومعارف عِلميّة محقّقة.

وفي السّياق عينه، يُحيلنا موضوع الحرّية على موضوع الحداثة، الذي خبره أيضًا المفكِّر (صادق جواد سليمان)، وقبل الخوض فيها يقول مُعرِّفًا إيّاها: “الحداثة هي منظومة الأشياء الحسّية التي نُحْدثها حولنا لتيسير أمور الحياة، الاستمتاع بها، والتّرفه فيما تجلب من راحة ورغد”، فالحداثة أمر طارئ على المجتمعات العربيّة والإسلاميّة، وكان من الضّروريّ التّعامل معها دون فقدان الماضي والهويّة، وهو الأمر الصّعب على المثقّفين فما بالك بعامّة الشّعوب أن تُجاور بين الأمرين. يقول (صادق جواد سليمان):

هناك حاجة لاستحضار المعطيات الحضاريّة المغيبة عن الحال العربيّ منذ عقود، خاصّة حينما نرى هذا الخلط الحاصل عربيًّا بين الحداثة والحضارة، وبين معطيات هذه وتلك. وقد اختلط علينا الأمر، نحن في الخليج العربيّ بالأخصّ، إذ ظننّا الحداثة عين الحضارة، فما عدنا نمايز بينهما.

نلاحظ إذًا، النّقطة المُهمّة التي حددّها المفكّر الرّاحل في هذا الاقتباس وهي التّمييز بين الحداثة والحضارة، فالأولى فكريّة نظريّة خالصة، أما الثّانية فهي مادّية عَمَليّة بامتياز، وكثيرًا ما كان هذا اللّبس يعرقل المجتمعات العربيّة في النّهوض بِفِكْرِها وتجدّده.

في هذا التّسلسل الفكريّ الرّائع، لمفكّرنا المرحوم، نضيف أمرًا هامًّا شديد الحساسيّة والحدّة في الوقت نفسه، وهو موضوع التّجديد في الفكر الدّيني وما للأمر من صعوبة بالغة، من حيث أوّلًا التّراث الإسلاميّ، وثانيًّا تغيّر الحضارة وعدم صمودها على حال واحدة، إذ يقترح (صادق جواد سليمان) حلًّا – من وجهة نظره – لمقاربة الموضوع، وهو سلامة الفكر بسلامة منهج التّفكير، حيث يقول موضّحًا:

إلّا أنّ الفكر الدّيني، بعد ردح من الزّمن، أمام تراجع اقتناع النّاس بشروحاته الغيبيّة، لم يجد مناصًّا من أن يطرق باب المعرفة العِلميّة، فطرقه لكن بشديد حذر. في ذلك، بانتقائيّة غير عابهة كثيرًا بمعيار المنهج المعرفيّ، صنع الفكر الدّيني سندًا كلاميًّا زاخرًا لتبرير تأويلاته، سندًا متناغمًا مع المعرفة العِلميّة حيثما ناسبه، ومتفاديًا التّصادم مع مخرجاتها ما أمكنه. بذلك تصالحت الدّيانات مع المعرفة العلميّة، لكن بارتياب مستتر، بعد أن كانت قد خاصمتها جهارًا لأمد طويل، وتعاملت مع رادتها من العلماء والفلاسفة بإجحاف وإيذاء.

فَمَن يستطيع مناقشة تساوق الفكر الدّيني ومعطيات الحاضر؟ إلّا القلّة القليلة في العقود الأخيرة، فقد حرص – رحمه الله – على وضع يده على مكان الدّاء، وهو تسييج الفكر الدّيني نفسه بسند كلاميّ قويّ، لدحض كلّ فكر معارض، ومبرِّرًا في الوقت نفسه طروحاته التي لا يحيد عنها؛ رغم قوة المُتغيِّر العِلمي الحداثيّ الطّارئ. إذ يُعتبر المفكّر الرّاحل هنا، من مصافّ العلماء في العالَم العربيّ والإسلامي الذين بحثوا في الموضوع، الذي مازال يُحجم الكثيرون الخوض فيه، فكان بحقّ موسوعة فكريّة شاملة بما تناوله من موضوعات متعدّدة ومتنوّعة. 

مات الفقيد، وقد ترك للأجيال اللّاحقة فكرًا مستنيرًا، ينتظر من يحمل مشعله ليضيء مزيدًا من الطّريق حول الإنسانيّة جمعاء؛ فلم تفقده السّلطنة وحدها بقدر ما تألّمت الأمّة العربيّة الإسلاميّة كلّها.


المراجع والإحالات:

(١) مقال لصادق جواد سليمان، بعنوان بين الحداثة والحضارة، موقع ديوان العرب، تشرين الثاني-نوفمبر-٢٠١٢م.

(٢) ضمن حوار مع صادق جواد سليمان، حول موضوع فضاءات الحرّية وحدود المسؤولية، النادي الثقافي العماني، مسقط، أبريل ٢٠٠٩م.

(٣) مقال لصادق جواد سليمان، بعنوان العلاقة بين الفكر والحرية، موقع ديوان العرب، أغسطس-٢٠١٩م.

(٤) مقال لصادق جواد سليمان، بعنوان بين الحداثة والحضارة، موقع ديوان العرب، نوفمبر-٢٠١٢م.

(٥) المرجع نفسه.

(٦) مقال لصادق جواد سليمان، بعنوان سلامة الفكر تكون بسلامة منهج التفكير، موقع ديوان العرب، نيسان- أبريل- ٢٠١٤م.


بقلم: د. محمد كزو

مراجعة وتحرير: صبا بادغيش

زر الذهاب إلى الأعلى