الإنتاج الفني والسردي

عن العلاقة بين الغربة والإبداع عند حليم بركات

حليم بركات (مواليد 1933) عالم اجتماع واستاذ جامعي وروائي سوري. له العديد من الدراسات والروايات والمقالات المنشورة.

في كتابه (غربة الكاتب العربي)، نشر فصلًا يتحدث عن العلاقة بين الغربة والإبداع، فيقول مستفتحًا:

أتساءل في هذه الدراسة عن طبيعة العلاقة بين الإبداع الأدبي وذلك النوع الخاص من الهجرة الذي أسمّيه “الغربة” – وهو ذلك النوع الذي يصاحبه إحساس عميق بالنفي نتيجة لاستمرار الانتماء إلى المجتمع الأصلي والحنين إليه، على العكس من تلك الهجرة الطوعية التي تنتهي بالاندماج في المجتمع الجديد وتبنّي هويته.

يبتدئ بعد ذلك في تعريف الإبداع، فيقول:

نعرّف الإبداع بأنه إنتاج أعمال جديدة لا شبيه لها في السابق بسبب حصول رؤية متفردة للعلاقات بين الأشياء أو الكائنات لم يرها أحد من قبل. إنه التخيّل الخلاق الذي يمكّن المبدع من أن يرى علاقات جديدة هي غير تلك العلاقات التي اعتدنا أن نراها ونتعامل معها. […] توصل (جورج لوكاش) إلى أن “الفنانين العظماء كانوا دائمًا روادًا في تقدّم الإنسانية .. بأعمالهم الإبداعية”. وربط (فرويد) بين الإبداع والأحلام حين تخف الرقابة الصارمة على اللاوعي بفعل الوعي التقليدي. ويرى (لورانس هاتيرر) أن “المبدع يملك قدرة عقلية خاصة على الاستفادة من تجاربه الواعية وغير الواعية باختيار مشاعره وأفكاره وتنظيمها وتكثيفها وصياغتها أفكارًا ونتاجًا جيدًا”. 

ينتقل بعد ذلك إلى الحديث عن طبيعة العلاقة بين الإبداع والغربة، قائلًا:

نعرف من الدراسات الاجتماعية النفسية، ومن التجارب الخاصة والعامة أن المبدعين في مختلف المجالات أميل إلى النزوع الداخلي أو الانطواء والتأمل الباطني منهم إلى النزوع أو التوجه الخارجي، فالخلق لا يتم بالعمل الجماعي، بل بالعمل التأملي لوقت طويل وباستمراره. وبين النتائج التي توصل إليها الباحثون في هذا المجال أن المبدعين عاشوا نوعًا من العزلة أو الانطواء الذاتي في الطفولة واستمدوا اكتفاءً ذاتيًا من أفكارهم وانشغالاتهم بنشاطاتهم الخاصة، ومقابل هذا، وجد الباحثون أن الاتباعيين أو المقلدين عاشوا حياة اجتماعية مكثفة ونزوعًا ظاهرًا للخارج تسوده الطقوسية ورموز العضوية بدلًا من رموز التفرد، واستمدوا اكتفاءهم الذاتي من العلاقات الخارجية فحسب ومن نشاطاتهم العملية الخالية من التأمل.

ويقول في العزلة، بعد ذلك:

إن العزلة التي أراها ملازمة للإبداع هي ذلك التأمل الباطني المنتظم المستمر لا الانفصال والانغلاق والقطيعة. ما أقول به هو ضرورة إيجاد الفسحة الزمانية والمكانية للتأمل وتجاوز الطقوسية والمحدودية المفروضة علينا منذ الصغر.

وعن علاقة ذلك الإبداع بالمجتمع، يقول:

بين الاستنتاجات التي توصّل إليها علم اجتماع الأدب والفن عمومًا أن هناك علاقة بين الإبداع والأزمات المجتمعية. وفي ما يتعلق بتجارب الإبداع الأدبي العربي في هذا المجال، وهذا هو الذي يهمنا في هذه الدراسة، يمكننا أن نناقش بأنه ازدهر في تلك الفترات الزمنية التي اختبر فيها المجتمع أزمات عامة حادة، ورافق ذلك أو نشأ عنه وعي واقتناع بضرورة النقد التحليلي والمواجهة في سبيل تجاوز الأوضاع السائدة في حينه فظهرت في ما ظهر حركات شعبية مناضلة وحركات فكرية وكتابات ثورية.

وأخيرًا، يتحدث عن سبب تلك العلاقة:

بكل بساطة، تؤمن الهجرة بالنسبة إلى الإنسان الملتزم بقضايا مجتمعه تلك المسافة الضرورية التي يرى منها مجتمعه الأصلي بشموليته فيتأمله متحررًا من أشكال الرقابة المباشرة. هذه المسافة أو هذا البعد هو بمثابة التأمل الباطني بعد زمن طويل من الاندماج الكلي والغرق في متاهات التفاصيل والجزئيات والمخاوف التي يستبطنها الإنسان فتتحول إلى رقابة محبطة. بكلام أدق، بقدر ما توفر الهجرة للإنسان مجالات العزلة والتحرر بالمعاني تساهم أيضا في خلق المناخ الضروري لحصول الإبداع.

ويختتم حديثه بإيضاح معنى السلطة:

وحين نتكلم على السلطة المركزية لا نقصد بذلك مجرد السلطة السياسية. إننا نشمل أيضًا السلطة الاجتماعية – الاقتصادية – الثقافية بهذا المعنى الأخير، تتميز السلطة في المجتمع العربي بأنها تستمد قوة خاصة من البنى العائلية الوالدية والدينية التي تضفي عليها طابع القداسة فلا تعود قابلة للنقاش.

ويتسع نطاق القداسة ليشمل اللغة لا مجرد الرسالة التي تحملها مما يفسر شدة تقليدية اللغة في الثقافة العربية السائدة وعدم التسامح تجاه الخروج على القوالب والصيغ المتوارثة.

أحمد بادغيش

مدوّن، مهتم بالأدب والفلسفة والفنون.
زر الذهاب إلى الأعلى