العلوم السياسية

عن أدب السجون

 

prison

ممدوح عدوان (1941-2004) كاتب وشاعر ومسرحي سوري. قام بترجمة عدد من الكتب، كما تنوعت أعماله بين المسرحيات والروايات والمجموعات الشعرية والنثرية. في كتابه الأشهر (حيونة الإنسان) تطرق إلى أدب السجون، فقام بتعريف أدب السجون بداية بأنه:

نوع من الأدب الذي استطاع أن يكتبه أولئك الذين عانوا السجن و التعذيب، خلال فترة سجنهم و تعذيبهم أو بعدها، أو كتبه الذين رصدوا تجارب سجناء عرفوهم أو سمعوا عنهم.

ثم قام بعد ذلك بتعريف التعذيب:

ذلك الفعل المؤذي الذي يمارسه الإنسان على الإنسان الآخر عقوبةً ردعية أو قمعية أو تربوية أو لإجباره على أمرٍ مّا، كفعل معين أو البوح بمعلومات في التحقيق، و أحياناً كطقس ديني أو تجميلي أو لسبب اقتصادي و أحياناً كممارسة تدريبية.

فالتعذيب لانتزاع الاعترافات أو المعلومات، هو أسلوب يلجأ إليه العدو عند السيطرة على الأسرى لمعرفة أكثر ما يستطيع عن الطرف الآخر، يريد معرفة عدد القوات و أنواع الأسلحة و أسرارها و مناطق التمركز و الانتشار و أسماء القادة و كلمات السر الخ

كما تلجأ إليه السلطات عند اعتقال عناصر شبكة معيّنة ( سياسية أو إجراميّة ) لمعرفة بقية العناصر و أسلوب العمل و المتعاونين و أماكن الاختباء و أسلوب التواصل… الخ

ثم يكمل أحاديثه، فيقول:

هذا يعني أن هناك شخصاً لديه معلومات لا يريد الكشف عنها، وهناك طرف يريد انتزاع هذه المعلومات، و لو بالقوة.

و ” لوبالقوة” هذه تستمل على التعذيب بكافة أنواعه التي ابتكرها الإنسان في مسيرته ” الحضارية “. إنها معركة بين صمود صاحب المعلومات و قدرته على تحمل الألم، و بين المحقق و جماعته الذين يوقعون بالمعنيّ أصناف الآلام.

ويتطرق إلى انتزاع الاعترافات بمثل هذه الطرق:

أمّا بالنسبة للاعترافات المأخوذة بهذه الطريقة فليس لها صفة قانونية، فالتعذيب قد يضطر من يتعرّض له إلى الاستجابة لطلبات المشرفين على التعذيب بتحمل مسؤوليات لاعلاقة له بها أصلاً، و ربما اضطر إلى اختلاق معلومات لكي يخفف مسؤوليات لاعلاقة له بها أصلاً، و ربما اضطر إلى اختلاق معلومات لكي يُخفف التعذيب عن نفسه و لو إلى حين.

و قد يحدث امتزاج بين طلب المعلومات و الرغبة الخالصة في الإيذاء و إيقاع الألم و الرعب، ويصل الأمر أحياناً إلى نسيان سبب التعذيب، فيظل التعذيب هدفاً ووسيلة و غاية مستقلّة.

و يحار ضحيّة التعذيب في وسيلة للخلاص منه، فلا الاعتراف يكفي، ولا الاستسلام حتى مشارفة الموت يكفي!

و أحياناً يصل الضحيّة إلى درجة الاستعداد لتبنّي أي جريمة تُنسب إليه أو يُراد منه تبنّيها.

و من أجمل الشهادات على مواقف من هذا النوع ماورد في رسالة مايرخولد إلى مولوتوف قبل إعدامه. يقول:

” وجدت نفسي منفصماً إلى شخصين: الشخص الأول يحاول أن يعثر على أثر للجرائم التي يتهم بها فلا يجد، و الشخص الثاني يخترع الجرائم حين يعجز الشخص الأول عن اختراعها، وفي هذا المجال كان ضابط التحقيق يقدم لي عوناً لا يقدر بثمن حيث رحت، أنا و هو، نخترع معاً في عمل ثنائي ناجح، وهكذا حين كانت مخيلتي تعجز عن اختراع الجرائم كان المحققون يهرعون لنجدتي” .

و في كتاب ” العسف ” عن الثورة الجزائرية، عرض لتجارب أناس تعرّضوا للتعذيب و فيه استنتاجات:

” نميّز بين صنفين من الجلادين: هناك الذين قبلوا أن يجعلوا من هذه المهنة القذرة وسيلة للحصول على خبزهم اليومي، وهناك الذين يدافعون بشعور منهم أو غير شعو، عن المواقف الاجتماعية و الامتيازات التي تخصهم بها سلطة مثل هذه الأجهزة.. و كما في كل مكان، الأوائل يعتصمون خلف أدوارهم كمنفذين. و الآخرون يجدون مسوّغات لأعمالهم في الترسانة الإيدلوجيّة “

يعلّق ممدوح هنا بأننا:

عثرنا على سبب آخر غير إطاعة الأوامر، أو أننا نضع أيدينا على الخطوة الأولى في إعداد القتلة و تدريبهم و تأهيلهم.

إن منفذ التعذيب، بعد شحنه بفكر معيّن و عواطف و أحقاد خاصة، يشعر بأنه يؤدي خدمة خاصة ” للسلطة التي يحترمها أو يخافها أو يهابها ” أو للإيديولوجيا التي يؤمن بها. وهذه السلطة هنا، هي الحكومة أو الشعب أو الحزب أو الطائفة أو الجماعة ( الإثنية ).

و يقول سارتر في تقديمه لكتاب فرانز فانون (معذبو الأرض):

” لما كان لا يستطيع أحد أن يسلب رزق أخيه الإنسان أو أن يستعبده أو أن يقتله إلا ويكون قد اقترف جريمة فقد أقرّوا

[ يقصد المستعمرين ] هذا المبدأ: و هو أن المستعمر ليس شبيه الإنسان.

وعُهد إلى قواتنا [ يقصد القوات الاستعمارية الأوروبية ]. بمهمة تحويل هذا اليقين المجرد إلى واقع. صدر الأمر بخفض سكان البلاد الملحقة إلى مستوى القرود الراقية من أجل تسويغ أن يعاملهم المستوطن معاملته للدواب.

إن العنف الاستعماري لا يردي المحافظة على إخضاع هؤلاء البشر المستعبدين؛ و إنما يحاول أن يجردهم من إنسانيتهم “.

 

و يقول هيرمن هسّه في (ذئب السهوب):

” العالم الذي تبحثون عنه هو عالم أرواحكم ذاتها ” فالشخصيات ” هي السجن الذي وُضعتم فيه” و ” الروح الذئبية التي تتبقى حتى في نفوسنا المتحضرة هي ضمان الإذعان الاجتماعي ”

أمّا في الأرياف؛ فكانوا يوصون المتنقل في مناطق غير مأهولة ألا يخاف، أو يُظهر خوفه، لأن هذا الخوف سيُغري الوحوش بمهاجمته، كأن لهذا الخوف رائحة مهيجة!

 

و يُشير الدكتور مصطفى حجازي في كتابه القيّم و الهام، (التخلف الاجتماعي : دراسة في سيكولوجية الإنسان المقهور):

إلى الانتفاضة المسلّحة للمقهورين، و التي قد لا يكون لعناصرها وعي سياسي، ” فالإنسان المسحوق الذي حمل السلاح، من دون ثقافة سياسية توجه وضعه الجديد، قد يقلب الأدوار في تعامله مع الجمهور، أو مع من هم في إمرته، فيتصرف بذهنية المتسلط القديم، يبطش، يتعالى، يتعسّف، يزدري، وخصوصاً يستغل قوته الجديدة للتسلط و الاستغلال المادي و التحكم بالآخرين “.

يُعقَّب ممدوح عدوان بقوله:

هنا شيء يُمكن أن نسميه الانتقام من الماضي، فللأثرياء الجدد، مثلاً ، سلوكية خاصة تميّزهم و تدل عليهم. إنهم يريدون في كل حركة من حركاتهم أن يثبتوا لأنفسهم قبل الآخرين، أنهم أثرياء حقاً، إنهم يستعرضون القدرة الجديدة على الإنفاق، تلك هي سلطتهم الجديدة التي توصلوا إليها، إنها سلطة المال الجديد، وهم يضطهدون الآخرين بسلطتهم تلك. وتستطيع أن تستدل عليهم من تصرفاتهم في الأمكنة المبتذلة التي يستعرضون غناهم فيها، وهؤلاء يختلفون عن أصحاب المال الموروث: أبناء الطبقات الغنية الواثقة من غناها و المتعودة عليه. إنهم ليسوا في حاجة إلى استعراض ثرائهم أو إثباته في كل مناسبة.

و كذلك فإن المقموعين تاريخياً، حين يجدون متنفساً و يتوصلون إلى سلطةٍ مّا، فإنهم يريدون أن ينتقموا داخل نفوسهم من كل مشاعر الخوف و التذلل التي عرفوها، ولذلك يُصبحون أشد قسوة من مضطهديهم، وهم يقلدون أولئك الذين اضطهدوهم فهم يضيفون إلى مايعرفونه و يريدون تقليده شحنات من أحلام اليقظة المكبوتة و الانتقام من الذات التي كانت مستكينة، ويمددون صلاحياتهم خارج أسوار المكاتب أو حتى الزنزانات و من ثم تصبح ” نجوم الظهر ” التي كان يحلم بها ذلك السجين، ظاهرة ليس فقط للمساجين الذين سيقعون بين يديه، بل و للمجتمع بأسره.

و قد ابتكر ” أورويل ” كلمة أصبحت جزءاً من المفردات العلمية الحديثة، و هي ” التفكير المزدوج ” و يقصد بها القدرة على الإمساك بمعتقدين متناقضين في عقل المرء في وقت واحد و القبول بكليهما!

هذا التفكير المزدوج معشّش في نفوس المقموعين، حتى و إن بدا بعضهم في أعلى مراتب السلطة.

و في ( الخوف من الحرية ) لإيريك فروم هناك تعريف لسيبون ويل يقول:

” السلطة هي القدرة على تحويل الكائن الحي إلى جثمان و من ثم إلى شيء “.

و قد درَس جوزيه دو كاسترو في ” جغرافية الجوع

خوف الناس من قول الحقيقة حول أوضاعهم الاجتماعية و الاقتصادية و أنه ناجم عن نوع خاص من الخجل.

و يقول آرثر سالزبورغر

 احجب المعلومات الصحيحة عن أي إنسان أو قدمها إليه مشوّهة أو ناقصة أو وحشوّة بالدعاية و الزيف – إذاً فقد دمرت كل جهاز تفكيره و نزلت به إلى مامن دون مستوى الإنسان.

 

للاستزادة: كتابي “التخلف الاجتماعي: مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور” و”الإنسان المهدور: دراسة تحليلية نفسية اجتماعية” للدكتور مصطفى حجازي. وكتاب الدكتور خالص جلبي “كيف تفقد الشعوب المناعة ضد الاستبداد“. وكتاب “أيها المحلفون ،، الله لا الملك” وهو عبارة عن مقالات وبحث عن نخبة من أدباء هذا الجيل. وقد رصد الأستاذ نواف القديمي عدد من أبرز ما كُتب في أدب السجون، نعيد نشرها هنا.

 

هاجر العبيد

مشرفة نادي القراءة بطيبة، عضو مؤسس لنادي قبَس الثقافي بجامعة طيبة، مهتمّة بالعلوم الإنسانيّة و التَاريخ و الأديان.
زر الذهاب إلى الأعلى